هل أنجزنا الاستقلال الكامل؟
أي استقلال سنحتفل به اليوم وما زلنا نخوض حروبا للتحرير، ومازال عدد شهدائنا وجرحانا يتضاعف؟! منذ الوهلة الأولى لخروج المستعمر من أرضنا الطاهرة، تقاتل رفاق الكفاح المسلح في حرب أهلية لم تتوقف إلى يومنا هذا. حرب مهما تغير فيها الشعار والراية إلا أن نتيجتها واحدة هي التنافس في إزهاق الأرواح، وانتهاك كرامة الإنسان الوطني، وإضعاف بنى الدولة، وتدمير مؤسساتها، وتحطيم إنجازات الأسلاف.
حرب تعيدنا إلى نقطة الصفر. ومن الصفر نبدأ نعيد مآسينا بتكرار سمج لنكباتنا وخيباتنا. احتفال كهذا لا يحتاج للأهازيج والتفاخر بطرد المستعمر، بل ما نحتاجه هو المراجعة الحقيقية لتجربة الاستقلال، مراجعة الذات الوطنية، وماذا يعني الاستقلال؟ وكيف يتعزز ليصبح مفهوما حضاريا ومسيرة وطن يرتقي لمصاف الحداثة والمعاصرة؟
صحيح أن في مثل هذا اليوم خرج آخر جندي بريطاني، ولكنه عاد برداء وطني، ويحمل فكرا أيديولوجيا، ويفتش في التناقضات السياسية والخلافات التي يفترض أننا قد ارتقينا لتجاوزها بمبدأ التعدد السياسي والتنوع الفكري. عاد لينخر المجتمع والنخب السياسية بالتصنيفات والهواجس من الآخر المختلف، مما سمح لأعداء الاستقلال والتحرر بإثارة النزعات والصراعات، وتغذية الحروب، وتدمير كل ما هو وطني، وتمزيق المجتمع وتفتيت الوطن.
الاستقلال لا معنى له من دون تعزيز الوحدة الوطنية، وتدعيم الدولة الوطنية، وتكاتف الجهود في النضال من أجل تعزيز القرار السيادي، وبسط نفوذ الدولة على كل شبر من أرض الوطن، وعلى كل مفردات حياتنا وجنبات وطننا، الأرض والسماء والبحر، بقرار سيادي نابع من الثوابت الجامعة، التي تعزز فينا الهوية الوطنية والعربية والاسلامية، تلك الهوية التي إن فرطنا فيها فقد فرطنا بتاريخ عريق وحضارة متعاقبة متجذرة في عمق هذا التاريخ، وهي فخر للأمة.
تفريطنا بالقرار والسيادة هو تفريط بالاستقلال، لتعود الهيمنة تستعمرنا وتخترقنا، من خلال العمل على التناقضات، والاستقطاب من أجل تعزيز التنازعات البينية. فالمستعمر يختار أدواته بعناية من القوى التقليدية المتعصبة، أدوات ما قبل الدولة، بهدف تدمير أي فكرة تنشأ تؤسس لدولة جامعة، دولة المواطنة والحريات والعدالة، دولة النظام والقانون الذي سيضبط الاختلاف ويحكم الخلاف، ويعزز الاستقرار السياسي ليرتقي البلد اقتصاديا، والاستقرار يبدأ من استقرار الذات، والتسامح والتصالح.
لنتطهر من الأحقاد والثأرات وتراكمات الصراعات والحروب، فالتسامح والتصالح يصنعان سلاما، والسلام يصنع دولة محترمة ووطنا يستوعب كل الأطياف والأفكار والأعراق، ويلملم الجغرافيا، ويضبط إيقاع التعدد السياسي والثقافي والعرقي.
القوى المسيطرة على العالم اليوم هي قوى كبرى، كبرى في حجم التحالفات التي شكلتها، في أقاليم فيها ما يفرقها أكثر مما يجمعها، فالقليل مما يجمعها هو الذي جعل منها قوة كبرى تنافس للسيطرة على العالم الضعيف والممزق، وهي سماتنا كعرب ومسلمين، وأرض جالبة للتدخلات الخارجية، وساحة لمعاركها العبثية، تمزقنا وفق مصالحها وتلعب بنا كما تشتهي، وتعيد رسم حدودنا كما يحلو لها. صرنا لعبة يتسلون بنا ومحل تجارب لأسلحتهم ومخططاتهم، وهذا ما يوفر لهم فرص نهب ثرواتنا وخيراتنا، وتدمير مقدراتنا، وتعطيل مقومات دولنا.
ولن نكون قوة كبرى إلا بمعانٍ سامية للمواطنة الصالحة، التي تتجلى بممارستنا لواجباتنا بنهج يؤمن فيه كل فرد منا بأن له دوراً في تدعيم أسس ومفهوم استقلال الوطن، وهو يؤدي واجباته بأمانة الضمير الوطني وتعظيم الإنجاز، ليبقى الوطن حرا مستقلا وسيدا كافيا لنفسه وعفيفا عن غيره في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية وغيرها. وكل ذلك لا يتأتى إلا إذا وقف كل واحد منا عند حدود مسؤولياته وواجباته الوطنية حاملا راية الإنجاز، مستلهما من نضالات الأسلاف، وتاريخنا العريق، وعظمة الحضارة، ومسيرة النضال ضد المستعمر، التي وحدت كل القوى بكل أطيافها وتوجهاتها في جبهة كفاح مسلح وفكر تحرري كانت عدن منارته، فكر يحمل هم الأمة العربية والإسلامية ويقودها للنهضة والعلو.. فكر أرعب المستعمر فترك عدن وترك خلفه فتنة لتفكيك هذه الجبهة الصلبة التي كانت تجمع كل القوى السياسية بكل توجهاتها وتعددها الفكري والثقافي، كانوا جميعا في خنق واحد، فككتهم الفتنة وعطلت بناء الدولة الوطنية المنشودة، وتاه البعض عن فكرة الاستقلال والتحرر لينبهر بنموذج صنع لذلك، بهرجة من الأضواء الملونة، وأبراج إسمنتية خالية من الروح الإنسانية والكرامة والتسامح والسلام، فيها الإنسان هو البضاعة الأرخص، والاستقلال وهم، والتحرر مصيدة بمعايير مقلوبة.
علينا أن نستعيد ذواتنا، ونستعيد استقلالنا، لنستعيد وطننا وإرادتنا وسيادتنا وحريتنا وكرامتنا. استقلال مجيد بإذن الله. وإن غداً لناظره قريب.
