كل صراعاتنا تحل بالعنف، والعنف يصدّر أدواته، وأدوات العنف تستخدم كل وسائل الخلاف والاختلاف، فتتطرف وتغالي بالمواقف إلى حد العداء والفجور في الخصومة، وهذا ما يغذي دائرة العنف والصراعات والحروب العبثية، ويدمر التوافق والتعايش والأوطان.
ولكي نتجاوز حالة العنف علينا أن نتوافق على شكل دولة توفر كل وسائل الحلول السلمية، مما يحقق استقرارا سياسيا وأمنيا يتيح الفرص لتوفر تنمية اقتصادية واجتماعية، وضمان حقوق الأفراد من الانتهاكات ويحفظ كرامتهم، وكرامة وطنهم، وهذا يستدعي بناء شرعية تستمد قوتها من إرادة الشعب، هذا هو شكل وجوهر الدولة المدنية.
والدولة المدنية تعني بناء نظام حكم يقوم على سيادة القانون والمواطنة، حرية ومساواة، وحقوق مكفولة، والفصل بين السلطات، الشفافية، المحاسبة، تحقيق التناغم بين مبادئها ومقاصد الشرعية، وهي رؤية لتجاوز حالة الصراع الدامي الذي أصبح اليوم يشكل خطرا أكثر من أي وقت مضى، حيث يبرر اجتثاث الآخر وإنهاء دوره السياسي والاجتماعي كشريك، مما يؤدي إلى الانهيار الذي لا يسمح بالاستقرار والازدهار.
الدولة المدنية تعزز دور الدولة الجامعة المنضبطة بنظام وقانون عادل يضبط إيقاع الحياة، بحيث لا يسمح لهيمنة واستبداد منطقة أو قبيلة أو طائفة أو مذهب على البقية ينازعهم الحق في الحكم بقوة العنف والسلاح.
مللنا من الصراعات الدامية التي راكمت حجم الثأرات والضغائن، وما زالت تتراكم وتحدث شروخا في الوسط الاجتماعي والقبلي والمناطقي، فالغزوات الداخلية هي أخطر من الغزوات الخارجية، لأنها تعزز من الثأرات والأحقاد، وتطيل أمد الصراع إلى ما لا تحمد عقباه.
فالدولة المدنية تبني مؤسساتها المدنية والعسكرية وفق شروط الكفاءة والولاء الوطني، مع تحقيق عدالة الفرص بين كل المناطق والفئات الاجتماعية والتوجهات السياسية والعقائدية، بحيث لا يسمح للتسيد والهيمنة على السلطة والثروة.
المتخوفون من الدولة المدنية هم المتطرفون للمذهب والمنطقة والسلالة، فالتمازج بين النظام والقانون والشريعة ينهي هذا التخوف، مع الأخذ بعين الاعتبار للمشتركات بين كل هؤلاء ليكون الجميع شركاء منضبطين بنظام الدولة وقوانينها، بحيث لا يسمح للأمزجة أن تتصدر القرار وتلغي الآخر، المشتركات التي تجمعنا هي القادرة على أن تجعلنا نتوافق على وطن يستوعب كل أبنائه.
في الدولة المدنية السلطة قائمة على القوانين والعدالة، بما يضمن توازن القوى (الشرعية، التنفيذية، القضائية) وخدمة المجتمع، بحيث لا تنحاز لرؤية طرف دون الآخر، بل تدير التنوع والاختلاف بعقلانية حتى يثرى المجتمع بأفكار النهضة والتجديد لإحداث تنمية فكرية وثقافية وبشرية تستطيع أن ترتقي بالوطن لمصاف الدول المحترمة.
أفراد السلطة في الدولة المدنية هم مجرد موظفين لخدمة الناس، المخل منهم بوظيفته تلك يتعرض للمحاسبة.
في الدولة المدنية تخلصنا من القائد الصنم وما يصرف على راحته من مبالغ طائلة، لتصنع منه أسطورة وأداة قمع، وهذا ما نعاني منه منذ الأزل، هو يرتاح ونحن نتحمل متاعب راحته.
