في المجتمعات المتخلفة، يتم وأد هذه الملكة بالقمع من أول سؤال للطفل، لا يجد إجابات واضحة، بل يتم نهره بطريقة تقتل فيه ملكة التساؤل والتفكير فيما حوله، ويتم تنميته على أسس غير سليمة، حيث يصبح إنسانا بدون شخصية متميزة، بل يراد منه الطاعة العمياء، وعبارة (قع رجال) لها أثرها في تنمية العنف، وكلما اشتدت التربية نحو العنف تُنتزع منه قيم إنسانية ويحيد العقل ليتحول إلى حيوان ناطق.
للأسف، إننا في المجتمعات المتخلفة نقمع ملكة التفكير لدى الطفل، وتستمر حالة القمع تمارس في الأنظمة السياسية الأكثر تخلفا، التي لا تريد أن تبني جيلا متسائلا، جيلا حرا يبحث عن الحرية ويتساءل عن قيم العدالة، فالمناهج الدراسية والمنابر الدينية مشحونة بما يفخخ العقل بعصبيات وتناقضات تجعل من الإنسان مجرد وعاء لاستيعاب المعلومات دون تفحصها، أو حتى التساؤل حول قضاياها، هناك خطوط حمراء توضع بحيث لا يسمح لبناء شخصية مستقلة، متحررة تبحث عن الحقيقة وسط كم هائل من المغالطات التاريخية والمعلومات الفاسدة، التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم، من فساد وصراعات أفكار وطوائف ومذاهب ومناطق وحدود جغرافيا صنعت فينا روح العداء والفجور في الخصومة، وأصبحت أدوات حشد وتحريض. جيل يمسي على فكرة ويصبح على فكرة مناقضة.
صانعو القرارات لا يرغبون - في العادة - في أن يزداد أعداد المتسائلين، أولئك الذين من شأنهم أن يقلبوا الأنظمة الموجودة رأساً على عقب. لذا، نجد دائماً محاربةً شرسة تجاه المتسائل، فإما أن يتم إحباطه، أو أن يدرك هو ما يدور من حوله، فتزداد تساؤلاته وتنضج مقاربته للحياة، على النقيض مما أرادوا له.
صحيح أن المجتمعات المتخلفة قد يتفوق تخلفها على العقل المتسائل، لأنها تميل للعنف والغلبة، لكن يبقى التساؤل لا ينقطع وعدد المتسائلين يزداد، حتى وإن ازدادت أدوات ووسائل ومنابر القمع، وازداد عدد الخاضعين والمتقبلين للتبعية والارتهان للقوالب الجاهزة والمفروضة على العقل سلفا، لأن التساؤل هو البحث عن الحقائق، وتجاوز التعاطي مع القشور للتنقيب في جذور المشكلات لمعرفة أين يكمن الخطأ الذي تسبب بها.
المتسائل يرشده العقل، لا يميل للعواطف دون أن يتفحصها العقل بالتساؤل، ملتزم بثوابت المجتمع الإيجابية لأن عقله مبني على الإيجابية، ويرفض القوالب السلبية التي يتم فرضها على المجتمع، لأنه يدرك نتائجها والمخاطر التي تسببها.
المتسائل يتعامل مع المختلف كفكر، ويتصدى له بفكر نير، إن كان ضالا يرشده للصلاح، وإن كان متطرفا يحاول أن يتعامل معه بالوسطية، يحاول أن يجر الجميع للحوار الفكري الذي يصل بهم للمشتركات، والمشتركات هي التي تصنع التوافقات، وتؤسس لشراكة حقيقية لوطن يستوعب كل الأفكار بتعدد سياسي وثقافي يحتوي كل الطوائف والأعراق بنظام وقانون ضابط للعلاقات.
