ماذا نقول عن عدن اليوم بعد أن جار عليها الزمان واختلاف الأحيان. نحن - مواليد جيل الخمسينيات - افتقدنا روح عدن التي تربينا عليها، تلك المدينة التي تصحو مع شروق الشمس، ومن الساعات الأولى من الصباح تنبض حياة وعملا وتجارة. تسمع في أرجائها أصوات البواخر الداخلة والخارجة من ميناء عدن الشهير (ثاني ميناء عالمي، ومنطقة حرة)، حركة الحافلات التي تنقل العمال والموظفين والمهنيين وطلاب المدارس والجامعة. يمكن القول بأنها “المدينة التي لا تنام” بسبب حركة العمل والدراسة والنشاطات الفنية والثقافية والتجارية. كانت الحياة في عدن ديناميكية تستمر على مدار الساعة.
يرافق صخب الحياة في عدن نغمات الموسيقى وأثير إذاعة عدن (هنا عدن) أول إذاعة في الجزيرة، وتلفزيون عدن، منذ الصباح الباكر، وصباح الخير من بدري، وقل له يا صباح النور، ذكريات راسخة في الوجدان. كان نفس عدن وصوتها الشجي الذي يمد الحياة بالحيوية والنشاط. الصوت لا ينقطع ويسمع في السيارات والمعامل والمدارس والمرافق، من أغاني الصباح لأغاني العمل والعمال والأغاني الوطنية، محمد سعد عبدالله وأحمد قاسم وصباح منصر والمرشدي والعزاني، كل صوت له أثره فينا، يرسخ لثقافة عدن الوطنية وحيا على العمل، ذكريات نتحسر على فقدانها اليوم. وكثير هم فنانو هذه المدينة وصوتها الشجي وتراثها المتميز، هذا ما افتقدته عدن اليوم، لم يعوضها ذلك الكم البديل من الإذاعات والقنوات، الفاقد لروح عدن وإرثها وروحها الشجي الذي نشعر أنه يمثلنا ويمثل عدن.
يبقى السؤال: ما الذي منع وما زال يمنع أن تستعيد عدن روحها الأخاذ وصوتها الشجي، إذاعتها وقناتها؟.. لم يبقَ من عدن التي نعرفها غير صحيفة 14 أكتوبر الغراء، وصحيفة الأيام، من ذلك الزمان الذي نعرفه، واللتين ما زالتا تصارعان من أجل البقاء كنفس عدني وطني لا تزحزحه رياح الانهيارات السياسية. قلعة صامدة في وجه كل التحديات للإبقاء على إرث عدن الثقافي والصحفي كرائدة في المنطقة.
لا نريد غير أن تستعيد عدن نفسها المميز، ألقها وأناقتها المعروفة. عدن اليوم كما قال عنها الفنان التشكيلي زكي يافعي “تعيش صراعا بين الريف والحضر”، خاصة بعد النزوح الكبير إليها بثقافات وعادات وتقاليد لم تراعِ أنها مدينة. مدينة لها خصوصيتها ونظامها وثقافتها من التنوع والتعايش، ومن غير المقبول أن تعود للإرث القبلي البالي. عدن مدينة حضارية منذ الأزل منضبطة بالنظام والقانون، اليوم تتحول إلى مقاطعات مناطقية وعشوائيات، افتقدت تخطيطها العمراني، كما فقدت الاندماج العرقي والثقافي في النسيج الحضري للمدينة، ليذوب القادم وينصهر في مجتمعها الحضري متعايشا مع المختلف، لتحفظ عدن إرثها وثقافتها المدنية.
ما يعيق استعادة صوت عدن، إذاعتها وقناتها، يتداوله ذوو الاختصاص بحكايات من مهنيين وموظفين ومهتمين، عن نهب مكتبة الإذاعة والتلفزيون، وتدمير الأجهزة الحديثة. والحديث عن أنها كانت موجودة بعد تحرير عدن وجاهزة للعمل والافتتاح، بكوادرها المؤهلة، لكن هناك من لا يريد لعدن أن تعود كما كانت. أُهملت وأُهمل كوادرها، ويرسم لها هوية مختلفة نلمسها اليوم في معاناة مجتمعها والكادر فيها، وتدمير إرثها وثقافتها وخصوصيتها كمدينة ومدنية.
أعيدوا لنا عدن التي نعرفها، التي امتازت برقي التعليم والإدارة والثقافة والفن والمسرح.. أعيدوا لنا صوت عدن الذي يمثل هويتها.
