مما يزيد الطين بِلَّة، في حياتنا نحن اليمانيين المليئة بالمعتقدات الخرافية، أن معظم، إن لم يكن كافة الكهنة والمشعوذين وبعض رجال الدين اليمنيين والعرب، يُضفون على أحاديثهم الخرافية مسحة دينية أو صوفية، ما مؤداه دعم التفكير الخرافي والفهم الأسطوري لدى الناس لظواهر الحياة الطبيعية والاجتماعية، يضاف إلى ذلك ترويج السلطة الحاكمة المتخلفة للفكر الأسطوري وتخاذل النخب المثقفة وانتهازيتها مما أدى إلى ضعف قيم الحداثة والتغيير التي وجدت مرتعاً خصباً في تخلف المجتمعات، ومن ثم، عدم ارتباط الإنسان فيها بوسائل الإنتاج وأدواته أو ارتباطه بالمنجزات الإنسانية العظيمة ارتباطاً شكلياً، يضاف إلى ذلك عدم الاستقرار النفسي للفرد والجماعات في زماننا الشديد الاضطراب.
وعلى عكس ما يجري في مجتمعاتنا الراكدة فما أكثر الظواهر الغريبة التي قابلت وتقابل علماء الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء والفلك في الطبيعة ... إلخ، ولكن بالبحث والتمحيص تمخضت عن كشوفات ضخمة أفادت البشرية فوائدة جمة وما تزال.
وفي عصرنا فإن الكثير من الخرافات والترهات والأوهام التي كان يتصدى الكهنة لتفسيرها على أساس خرافي ثم بزغ عليها العلم بنوره، ولت إلى غياهب العدم كالفئران المذعورة، ذلك أن العلم إذا دخل من الباب، مع ما يرتبط به من تقدم مادي واستنارة فكرية قفزت الخرافات هاربة من النوافذ.
الشيخ (الزنداني) وعذاب البرزخ :
بالرغم مما سبق إيضاحه فما زال البعض يتصدى لتفسير الظواهر الكونية على أساس غير علمي ذي طابع كهنوتي، معتقداً أنه بذلك يكسب موقعاً في الصراع ضد الغرب وعلومه وإلحاده، بينما الثابت هو أن التفسير الخرافي للظواهر الطبيعية يلحق أفدح الأضرار بالعرب والمسلمين والإسلام معاً، وعلى سبيل المثال نقتطف ما يلي من شريط مسجل بصوت الشيخ (عبدالمجيد الزنداني - رئيس جامعة الإيمان) حول عذاب يوم القيامة، وأصوات الموتى يعذبون في القبور وما يجري في (البرزخ):
قال الله عن الفجار (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) قال ابن عباس وغيره (سجين) النار في باطن الأرض في الأرض السابعة تدخل فيها أرواح؟ أرواح من؟ الفجار والكفار. طيب وأرواح المؤمنين؟ في عليين و (كتاب الأبرار لفي عليين) فأرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار في سجين وقد جاء في سجين أنها باطن الأرض. إذا نتوقع أن أرواح هؤلاء الكفار تعذب في النار هي نار البرزخ على أن يأتي يوم القيامة ثم يبعثون وتعود أرواحهم إلى أجسادهم كما شرحنا في هذا الشهر ثم يساقون إلى الحساب وبعد ذلك إلى النار أو الجنة.
الموضوع الذي نحن بصدده هو أن فريقاً روسياً للحفريات كان يحفر إلى أعماق بعيدة، لحساب الأبحاث الذرية الروسية. قال رئيس الفريق وهو شيوعي (رأينا أن الحفار قد وصل إلى عمق كان الحفار ينـزل فيه بسرعة ما فيش صخور. قال: فعرفنا أننا قد اقتربنا من كهوف نارية فيها الصهير الناري هذا الذي موجود تحت القشرة فاقتربنا من الكهوف درجة الحرارة إلى 2000 درجة فهرنهايت، ثلث درجة حرارة الشمس). قالوا نحن الآن وصلنا إلى الصهير البركاني الذي الصخور تحولت فيه إلى سوائل، فقالوا ما نقدرش نصور ولكن عندنا إمكانية أن نسجل. أزير انفجار بوم بوم؟ ((فماذا كانت النتيجة؟ يقول الفريق كله (بما فيها) رئيس الفريق: أصبنا بالذهول. أيش؟ قال: لأننا لم نسمع أصوات معادن (منصهرة) ما سمعنا أصوات سوائل سمعنا أصوات آدمية ملايين لأصوات آدمية من الرجال والنساء يصرخون من العذاب)).
رئيس الفريق يقول: أنا شيوعي لا أؤمن بالله لكني أنا الآن أومن علمياً بالعقاب يوم القيامة.
ثم يتابع الشيخ (الزنداني):
((وكثير من المواقع في الإنترنت نشرت صورة الفريق ورئيس الفريق والأصوات التي سجلوها عندنا في (مركز البحوث بجامعة الإيمان). قالوا هذا الكلام قلت لهم سجلوا الأصوات سجلوا الصور فإنهم لن يسكتوا عن هذا سوف يسحبون هذه الأصوات لأن هذا نصر للمسلمين لأننا نحن الذين لدينا الأدلة على عذاب البرزخ ولدينا الأدلة أن عذاب البرزخ يكون في النار في باطن الأرض في سجين)) والآن نترككم مع هذه الأصوات:
(وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا وا))
((وأرسلت شخصاً إلى (سيبريا)، وقلت والله ما تفلت علينا هذه ذهب هذا المندوب إلى سيبريا وقال لنا أنه قابل علماء الجيولوجيا في (سيبريا) وقالوا الخبر صحيح وحذروه من مواصلة البحث، قالوا انتبهوا أن تواصلوا بحثكم لأنه متعلق بأبحاث نووية سوف لن تترككم المخابرات الروسية)).
كهانـــة النســـاء :
عندما تحدث الكوارث والتحولات المأساوية الخطيرة في تاريخ البشرية وحياة المجتمعات تنتشر الخرافات ويكثر المروجون لها من الكُهّان وأصحاب اللاهوت، ومن صور الكهانة في اليمن المعاصر ما ترويه إحدى الكاتبات اليمنيات حول صيرورتها (نَبيَّه) وهو ما دَوَّنه (الصِّـدِّيق) الوحيد الذي آمن بها ساخراً ونقصد بذلك الأستاذ (فواز طرابلسي) ، حيث عقد لزعمها النبوة فصلاً في أحد كتبه، بعنوان (النَّبيَّة) ونورد فيما يلي بعض المقتطفات منه:
((والله، إيش أقول لك، يا عزيزي؟.
كان هذا في نوفمبر 1982م، كنت في الرباط، في المغرب، أحضر ندوة لمنتدى الفكر والحوار عن التراث والعمل السياسي. وكنت أحس برغبة عنيفة لمعرفة المغرب. كل كياني كان هكذا متشبعاً بتلك الرغبة. في الندوة، طبعاً، كان طرحي ماركسياً.
في حفل غذاء عند سفير اليمن تعرفت إلى شاب يمني متزوج من بربرية.
الخميسات. هم، كأناس، مضيافون، لطيفون، رحبوا بي.
مكثت عندهم يومين. أول ليلة ما فيش حاجة. ثاني ليلة، يا عزيزي، إيش أقول لك؟ حسيت هكذا بيد تقيمني من النوم. ما كنتش، طبعاً، قادرة أن أقوم أمشي. بس هكذا يد تمسكني وتقول لي: ما تخافيش. إيش هذا؟ إيش إللي حاصل؟ سمعت هكذا صوت يقول لي: (أنا الوحي).
الليلة الثانية في البادية شعرت، يا عزيزي، شعرت كما لو كان أحد يقومني من النوم. فقمت من النوم أشعر كما لو كانت عملية جراحية تجرى في صدري وصوت يقول لي: (قومي. إقرئي سورة الأحزاب). لأن معاك رسالة تحمليها للناس. طبعاً، العملية إللي كانت تصير في صدري ... كنت أشعر ببرودة في أطرافي. أرتجف والناس إللي أنا عندهم يغطوني بزيادة.
إيش رأيك إني أقول لك إني أشعر بإشارات، أشعر تأتيني إشارات. أشعر تأتيني إشارة إذا أنا سوف أتسلم شيئاً أو يحدث لي شيء. صارت هكذا تأتيني الإشارات بعد الحدث. إذا يصير لي حدث، أشعر قبله بشيء في صدري.
قضية الصلاة: هكذا شعرت بأني أُمرت بها بطريقة الإشارة. أن أجلس وأسكت. بعد هذاك الحدث، لم تأتني أي رؤيا إلا وصدقت. جاءتني رؤيا عن علي سالم البيض. جاءتني رؤى شخصية. وأنا في هذا البلد. صدقني يعني قبل مؤتمرهم. قبل 1986م؟ آه، في 1985م. رأيته في الرئاسة.
قدسية مكة انتهت. الأماكن المقدسة ستتحول إلى (المغرب). الرسالة فعلاً انتهت بمحمد بن عبدالله والذكور. والقرآن واضح وصريح، وفي المشرق، انتهت الرسالات السماوية. انتهت وستبدأ في المغرب وفي إناث.
أصلي على طريقتي. أصلي سجوداً. وأصلي إلى المغرب لا إلى مكة. وأصلي طبعاً فرضين. أصلي في الفجر وأصلي في المساء. لماذا فرضان وليس خمسة؟ لأن الصلاة مرة واحدة في الأسبوع قليل. وفي الإسلام خمس مرات ... كثير.
أصوم يومين في الشهر. اليومان اللذان شعرت فيهما بهذا التغيير أو بهذا النـزول.
هذا ما يسمى بالبعث، يا فواز. ليش يقولوا بعث الله فلاناً وإيش خرج الله فلاناً من الأرض، يعني غير وجدانه. يعني Changed upside down . أصوم كل 16 و 17 من الشهر القمري. طبعاً كلامي هذا غير مقبول. ولكني ماشية فيه. ولا حملت أحد، بما فيه ابني (آزال)، بأن يصلي صلاتي أو يصوم صيامي.)).
وفي معرض تبرير (اللوثة) التي أصيبت بها النَّبِيَّة المزعومة فقد ذكر حي المرحوم الأستاذ (فضل النقيب) عن الأستاذة (ثريا منقوش - عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني) ما يلي:
((المهم أن الأخت (ثريا) قضية ما تحملها ملف كما يقول شاعرنا (المحضار)، وحتى لا أنسى، أشير إلى أنها كانت موجودة في بيروت أثناء الغزو الإسرائيلي فقصف الطيران الإسرائيلي المبنى الذي كانت فيه وكانت هي الوحيدة التي خرجت سالمة من بين الأنقاض، وأثناء إسعافها على النقالة جرى قصف آخر فقتل المسعفون وسلمت هي، إلا أنها على ما يبدو - والله أعلم - أصيبت بارتجاج في المخ من نوع ما، لأنها منذ ذلك الحادث تدعي أنها تتلقى وحياً وإشارات وعلى كل حال فتلك قصة أخرى)).
الخرافات والحاج (هائل سعيد أنعم) :
من حكايات الكرامات المزعومة في اليمن المعاصر الروايات التالية التي وردت في كتاب: ((الحاج هائل سعيد أنعم))، رحمه الله. والذي ألَّفه أحد الكتاب اليمنيين عندما كان موظفاً لدى مجموعة (هائل سعيد أنعم):
الدكان تحرسه الملائكة :
ففي يوم من الأيام عاد (سعيد عبده سعيد) إلى الدكان بعد صلاة الفجر ليفتحه فوجد قفل الباب مكسوراً وعندما فتح الدكان وجد درج الدولاب الخاص (بالأمانات) قد انتزع وسرق، وفيه أموال وأمانات لبعض العمال الذين كانوا يضعونها عند المرحوم في الدكان للاحتفاظ بها، وعاد (سعيد عبده سعيد) مهرولاً إلى المسجد وأخبر عمه بما حدث، وذهب المرحوم إلى مركز الشرطة لإبلاغها بالسرقة، وبعد عمل محضر الإبلاغ بالسرقة ذهب معه شرطي من القسم لمعاينة الدكان، وفي الطريق عند عودته إلى الدكان ومعه الشرطي قابل أحد الأشخاص الذين يعملون في مقهى قريباً من الدكان وأخبر المرحوم أن الصندوق وجد على الطريق وأن السارق قد تركه وهرب، ولما وصل المرحوم إلى المكان ووجد الصندوق وبعد فتحه وجد المال والأمانات المودعة للعمال كما هي لم تمس بسوء فقد حاول اللص كسر الصندوق وتعسر عليه الأمر وترك الصندوق وهرب.
وفرح المرحوم لذلك وحمد الله ... وطلب الشرطي من الحاج (هائل) أن يقوم بمعاينة الدكان فقال له ليس ضرورياً ويمكنك أن تعود إلى عملك فالدكان تحرسه الملائكة ولا خوف عليه.
وفي موضع آخر يتحدث الكاتب عن نماذج وصور من الكرامات الأخرى المنسوبة من قبل الكاتب (الأثوري) لحي المرحوم الحاج (هائل سعيد أنعم):
ملاكه يدفع الموت عن الحاج (هائل) ومن معه:
وفي هذا السفر حدث أمر عجيب، فبينما كانت السيارة تسير بسرعتها تطوي الأرض، وبعد أن ناصفت الطريق المؤدية إلى الحديدة إذا به يصيح رحمه الله بالسائق بلهجة قوية: قف قف، وخذ هذا الرجل معنا، وأوقف السائق السيارة حسب الطلب وتلفت يميناً وشمالاً لعله يرى الرجل كما صنع الصنيع نفسه الأستاذ (أحمد هائل) لكنهما لم يريا أحداً ولم يعثرا على رجل وبدت على الجميع علامات الاستغراب؟! فقال الحاج (هائل) لقد رأيت رجلاً بلحية بيضاء وملابس مشيراً إلينا بالوقوف!! وأمر السائق بالنـزول مرة أخرى ليتأكد من وجوده وأجال بصره هنا وهناك لكنه لم يعثر على أحد، وفجأة نظر إلى عجلات السيارة (الإطار) خاصة الإطار الأمامي وإذا بالسائق يحوقل ويسترجع ويضرب كفاً بكف من الحيرة والذهول والخوف فقال له الأستاذ (أحمد) سر بنا على بركة الله، فقال السائق وقد امتقع لونه يا حاج (هائل) ويا أستاذ (أحمد) لقد كنا معرضين للموت، عجلة السيارة الأمامية ما بقى فيها غير مسمار واحد كل الباقي تكسر، ولكن الله سلم. ولو سارت السيارة بذلك الوضع لكانت كارثة محققة لولا لطف الله.
ويعلق المؤلف قائلاً:
وندرك هنا لطف الله الخفي ورعايته لعباده الصالحين ونقرأ قول ربنا جل في علاه ((له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله)) أي بأمر الله إذا لم تكن هذه الحادثة كرامة فما هي الكرامة إذن؟!
وأخيراً يورد مؤلف الكتاب هذه الحكاية العجيبة:
الحاج (هائل) يرى بعين الغيب :
وحدثنا من نثق بدينه وصدقه أن رجلاً صالحاً من سكان الحديدة لم يرزق إلا ولداً واحداً وكان به فرحاً مسروراً ولما بلغ الولد السادسة من عمره أصيب بشلل في جسمه ففجع به أبوه وعرضوه على المستشفيات والأطباء في الحديدة وصنعاء فما وجدوا له علاجاً، وخسر الرجل ماله وفقد أمله إلا أملاً ضئيلاً طرحه له أحد الأطباء حين أشاروا بسفره إلى الخارج، وظل الأبوان يدعوان ربهما في كل وقت وفي كل صلاة كي يمن عليه بالشفاء دعاء المضطرين وفي ليلة من الليالي رأى الرجل رسول الله صلىالله عليه وسلم يقول له: اذهب إلى الحاج (هائل) في تعز وهو سيعالج ولدك، وقف الرجل حائراً وهو يعلم بيقين أن رؤية النبي صلىالله عليه وسلم في المنام حق، لأن الشيطان لا يتمثل بصورة نبي أبداً وقد فسر العلماء قول الله جل ذكره ((لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)). قالوا: البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو ترى له.
وقص الرجل الرؤيا على أحد أصدقائه، ولم يجد تشجيعاً منه على السفر إلى تعز، وتكررت الرؤيا مرة أخرى ويأمر الرسول صلىالله عليه وسلم الرجل الذهاب إلى الحاج (هائل) للمرة الثانية فلما أخبر صديقه بذلك قال له: لا بد أن تسافر إلى تعز وتعرض مشكلتك على الحاج (هائل). وسافر الرجل وذهب إلى منـزل المرحوم فلم يجده وقيل له أنه في المستشفى وتوجه إليه ولو وجده لما عرفه فكلاهما لا يعرف الآخر لكنه سأل عنه فدلوه عليه فتقابلا وجهاً لوجه والدهشة بادية على الرجل خاصة حين رأى المرحوم يصوب النظر إليه فقال بتلعثم يا حاج (هائل) جئتك من الحديدة بشأن ولدي المشلول فقال له المرحوم بدون تردد أو استفسار موضوعك محلول إن شاء الله وارجع إلى الحديدة وستجد هناك في مكتبنا تذاكر السفر والمصاريف.
ويزعم مؤلف الكتاب أن التفسير الوحيد لهذه القصة أو (الكرامة) كما أسماها هو أن والد الطفل رأى الرسول فأخبره بالذهاب إلى المرحوم ورأى المرحوم رسول الله صلىالله عليه وسلم فأخبره بقصة الرجل ومرض ولده؟!
وتذكرنا هذه الحكاية بخرافة مماثلة وردت في أحد كتب التاريخ اليمني قبل قرون من الزمان، ولعل كاتب الحاج (هائل) قد اطلع عليها حيث ورد في الخرافة ما يلي:
((فما كان من الغريب إلا أن قال لصاحبه هيا اذهب إلى بيتك وجهز متاعك وملابس الحج فستكون إذاً مع الحجاج في جبل عرفات وعليك أن تكتم هذا السر فإنه إذا بحت به فسأموت أنا.
فجهز الرجل متاعه ولبس الحج .. وفي (المعزوب)، لبس الملابس وأمسك بحقيبته استعداداً للرحيل كما طلب من (الغريب)، فقال الغريب صاحبه: بعد لحظة ستكون بين الحجاج تؤدي مناسك الحج، وعندما تنتهي مراسم الحج سترى عبداً ضخماً واقفاً بباب الحرم الشرقي اقترب منه واضربه بكفك على ظهره حتى ينتبه، وقل له: صاحب الغريب. وبعد لحظة ستجد نفسك في بلادك)).
((ولهذا الإمام كرامات قد اشتملت عليها المطولات، وجهادات لا يتسع لها إلا مجلدات، وإقدامات يحجم عنها الأبطال، فمن ذلك ما حكاه صاحب نسيم السحر)):
قال: اخبرني شيخي الزاهد الصوفي الحسن بن الحسين حفيد صاحب الترجمة، وأن صوفياً بصنعاء كان شديد الخلاعة. وكان يأكل الحشيش أكل الحمار فكمن له الأمام (القاسم) في بعض الأزقة كمون الأفعوان حتى إذا مر به، ضربة بعمود فأخرج دماغه من بين الآذان)).
وهكذا نجد أن كرامات الأولياء (كما أوردتها الكتب الصفراء وأحاديث العوام) لم تكن في أي وقت من الأوقات دون معجزات الأنبياء شأناً.
فـ (مالك بن دينار):
((بلغ من منـزلته أنه ركب مع جماعات ذات مرة سفينة، فضاعت فيها جوهرة اتهموه بسرقتها، وإذ رفع رأسه إلى السماء (شاكياً) خرج في الحال كل ما في البحر من السمك على الماء وقد أمسكت كل سمكية بفهمها جوهرة، فأخذ (مالك) من كل ذلك جوهرة واحدة، وأعطاها للجماعة، ووضع قدمه على الماء وسار عليه في يسر حتى بلغ الساحل)).
أما (ذو النور المصري):
((فكان أهل مصر جميعاً متحيرين في شأنه، ومنكرين عليه في حياته، ولم يعرف أحد من أهل مصر جمال حاله إلى وقت وفاته، وفي تلك الليلة التي فارق الدنيا فيها، رأى سبعون رجلاً النبي عليه السلام في النوم يقول: (إن حبيب الله ذا النون يزمع المجيء، وقد جئت لاستقباله)، وحين مات ظهر مكتوباً على جبينه هذا حبيب الله، مات في حب الله، قتيل الله، فلما حملوا جنازته تجمعت طيور السماء وظللتها، فتحير أهل مصر جميعاً، وتابوا عما كانوا قد ارتكبوه معه من جفاء)).
وعن (محمد بن عمر الوراق) أنه:
((أعطى تلميذاً له كراسة وقال له: ألقها في البحر، فأخفاها التلميذ في منـزله وجاءه يقول : (ألقيتها). قال الوراق: فماذا رأيت؟ قال: لم أر شيئاً. قال: لم تلقها! عد وألقها في البحر، فرجع التلميذ وألقى الكراسة في البحر، فإذا بالماء ينشق، ويظهر منه صندوق مفتوح، فلما وقعت الكراسة فيه أغلق الغطاء، وعاد التلميذ إلى الوراق فروى له ما حدث وسأله عن سر ذلك، فقال: كنت قد ألفت كتاباً في الأصول والتحقيق يعجز الفهم عن إدراكه، فطلبه مني أخي الخضر عليه السلام، فأمر الله تعالى الماء أن يوصله إليه)).
وعن (أبي العباس القصاب)، قيل أن صبياً قد أمسك بزمام بعير يحمل حملاً ثقيلاً، فانزلقت رجل البعير ووقع وانكسرت رجله، واستغاث الصبي فقصده الناس، وإذ مر (أبو العباس) بهم وأخبره الناس بالخبر، أمسك بزمام البعير، واتجه إلى السماء فقال:
اللهم اشف هذا البعير، وإذا لم تشأ أن تبرئه، فلم أحرقت قلبي ببكاء هذا الصبي؟! وفي الحال نهض الجمل، ومضى صحيحاً معافى.
مشعـوذ مـن (سنحـان) :
كان، ولا زال، لقبيلة (سنحان) دور مهم في تاريخ الكهانة اليمنية والترويج لها ودعمها، ومما هو ثابت، تاريخياً، عنها هذه الحكاية:
خرج رجل في قرية (ظبوة) في (سنحان) من القبر ودعا أخاه وأباه وقت المغرب وأدخله إلى بيته وأخبر بأخبار عجيبة، وظن من لا عقل له صدق ذلك وكتبوا إلى عند الإمام إلى (عرّ الحيمة) وأجاب أن مثل هذا واقع واستدل بحديث (عزير) الذي ذكره الله في سورة (البقرة) وغير ذلك من معجزات الأنبياء، فقويَ أمره واجتمع رعاع الناس وأولموا ولائم كثيرة في بيت الذي ادعى هذا الشيطان أنه ولده وكاد الناس أن يقطعوا بصدق الخبر، وكان يخبر بأشياء موافقة وأشياء مخالفة والناس في هذا الزمان غوغاء لا يدعوهم داعي إلى الغي إلاّ تابعوه ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، فكتب الإمام إلى بعض العقلاء من العلماء بما يبطل ما وهموه وأزال الشك عما ظنوه واستدل بآيات قرآنية وأدلة شرعية فوفق الله الإمام إلى طلب هذا الرجل إلى حضرته لتحقق خبره، فوجهه بعض المشايخ ومن زعم أنهم قرابته إلى (عر الحيمة) إلى عند الإمام وصرفه الإمام عند بعض الخدم فأخرجوا حقيقته ومنهم من عرفه وتيقن الإمام كذبه وشرارته وأمر بحبسه، فانكشف أنه رجل من السادة الكباسية قد بلغ في الكهانة غاية، وقد سبقت له متفقات وصل إلى قرية (ظبوة) فلقيه رجل من الحراثين من أهل البلد فأخبره أنه يشبه ابن الرجل الفلاني كأنه هو وأخبره بأنه مات في هذا العام وقد حزن عليه أبواه حزناً كبيراً وأخبره باسم أبيه واسم أمه وأسماء قرابته وعرفه ما يملك من الضياع والمواشي وعرّفه بأهل المحل ولم يزل (الكبسي) يتردد إلى الحراث حتى عرف القدر المحتاج إلى الحيلة والفتنة ووقف في بعض الضياع إلى وقت المغرب وقد عرف قبر ابن الرجل الذي مات وحزنه أبواه وأدخل رجليه إلى ركبتيه في القبر ودعا أباه وعمه فأجابا وقالوا من أنت قال أنا فلان ابنكم فلم يصدقوه فأعاد الصراخ ودعا قرابته بأسمائهم فعجبوا منه ونزلوا إليه وهو منغمس في القبر إلى ركبتيه وسألوه فقال أنا فلان بعثني الله إليكم عبرة للناس وتسلية لأبي وأمي فأمسكوه بيديه وأدخلوه بموكب عظيم وكان يدعي كل أحد باسمه وخبر بالجنة والنار وصدقه من لا يعرف الشريعة.
وبما أن الخرافة هي كل ما يتشبث به الإنسان بغير أن يكون له أساس في الواقع الموضوعي، فإن ذلك يفسر لنا لماذا كانت حياة الإنسان في بداوته وبدائيته مفعمة بالخرافات.
ولكي تترسخ الخرافة وتنتشر وتشيع بالأذهان وتسيطر على الأفئدة فإن أول ما يكون انتشارها وذيوعها بين الأهلين.
وفي هذه السنة (......) ظهر رجل في بلاد خولان ومشارق صنعاء، أبدى للناس المخاريق، التي من جملتها دخوله النار العظيمة فلا تضره، فاعتقده العوام وأتوه بالنذور، ثم غاب بعد ذلك ولم يوقف له على أثر.
الخزائن المطلسمة :
وفي الاتجاه المضاد للمعتقدات الخرافية نقرأ في مقالة ساخرة للشاعر الغنائي العظيم (أحمد فضل العبدلي) الملقب بـ (القمندان) سخرية مريرة من (الجان) وأنصارهم وهجوماً أدبياً رائعاً يشنه الكاتب على كهنة الدين الذين يكفِّرون الآخرين ويحبرون عشرات المجلدات بالأمجاد الأسطورية تباهياً كاذباً بقحطان وعاد وثمود، وقد ورد في المقال:
أيها الجان الموجود المعدوم، المعروف المجهول، الساكن في الهواء والخلاء، بل في مخيلات الحمقاء أو الجهلاء أفما آن الأوان وسمح الزمن أن تكشف لنا يا أيها الجان، عن تلك الآثار، لنقرأ فيها أساطير آبائنا الأولين، فتتجلى عظمة (القحطانيين) قائلة، إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار؟!
أي أيها الجان! إن كنت أخفيت الخزائن، وسترت الدفائن، طلسمت وعميت فقد نميت على نفسك، وفضحت أمرك! أنت الجهل! الجهل إذاً هو الجان، الطلسمات. والشيطان له دولة وصولة وأنصار أقوياء يشهرون السيف، ويقطعون الرأس لحمايته، يرقون المناب، يتعصبون للضلالة، يحاربون الهدى، ويتولون للسخافات، عدو الجهل عندهم كافر، خاسر ملحد، ضال، مضل!
أنت أيها الجهل جان جنيت على الإنسانية، وجان سترت عنا الدفائن، وأخفيت الآثار. أنت سلطان بلاد العرب! تجبي الزكوات لجنودك، وتبني الجمارك لرفع أبنيتك وبنودك. أنت حبيب المستبدين الأشرار، وعدو الأحرار، فكيف يا جهل بسطت سلطانك على قحطان، وكيف قضيت على علوم صرواح ومعين ومأرب وغمدان! فأين ذهبت تلك القصور المذهبة، والأبواب المجوهرة؟ فهل تحالفت مع الدهر فأمدك بالنصر، أهدمت أولاً السدود. وتفتن الآن بين الشوافع والزيود؟ كيف نستعين بالمذاهب والأديان على ما لا يرضاه الديان؟ الفقهاء عبيدك، والأمراء جنودك، والحروب نيرانك، والرعايا وقودك، أنت الجان، أنت الشيطان بأمرك تقطع رؤوس العلماء بالسيف ونقول كفار، وتأبى أن تأكل مع الضيف وتقول نجس. بأمرك يراؤون ويمنعون الماعون، وينفر الإنسان من الإنسان، وأنت حفرت الأخدود، وألبستنا الجلود، وأنصارك على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. أنت الداء فمن لنا بالدواء، فلا يكفي فيك الدعاء.
*أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء