لا يكون الوعي بالحياة، إلا وهي في حالة حركة يومية، وهذه الحركة ليست عشوائية إذ هي محكومة بقوانين، وبالتالي لها منطق.
قيل إن أصل الحياة هو الماء، والدليل على ذلك أن جميع الأشياء تتغذى من الرطوبة ولكن الحياة شيء آخر غير الماء، وهذا الشيء الآخر مادة مختلفة عنه ولا نهاية لها، فأصل الحياة إذن هو اللانهائي ومع ذلك قيل رأي ثالث في أصل الحياة لا مجال هنا لإيراده (1).
والعقل هو الذي يقوم باكتشاف الحياة وقوانينها والتطور والتحول وتناقضاتها المختلفة، ولهذا اتصف هذا العقل بأنه ديالكتيكي، أي أنه قادر على الجمع بين النقيضين، والذي قال بذلك فيلسوف يوناني اسمه (هرقليطس) عاش قبل ميلاد المسيح عليه السلام، أي بين الأعوام (483 - 544 ق. م)، وقيل عن المفكر اليوناني المذكور أنه فيلسوف (معتم)، وقد أكد هو هذه الصفة إذ قال: (أنا لا أفصح عن فكري ولا أخفيه ولكني أشير إليه)، وبهذا التعتيم ظل (هرقليطس) مجهولاً من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن التاسع عشر الميلادي عندما ظهر إلى الوجود فيلسوف ألماني اسمه (هيجل) (1770 - 1831م)، قال عن (هرقليطس) أنه (أبوه الروحي) لأنه راح يشرح كيف يعمل هذا العقل الديكالكتيكي، فهو يعتمد أولاً على قانون التناقض ومعناه أن الشيء ينطوي على نقيضه، فمثلاً الحياة تنطوي على نقيضها وهو الموت، والحب ينطوي على نقيضه وهو الكراهية، وهنا يمكننا الاستعانة بالمثل العامي (ما محبة إلا بعد عداوة) كما أن النهار ينطوي على نقيضه الليل ... الخ.
قوانين الديالكتيك :
انتهى (هيجل) مما سلف إلى أن العقل الديالكتيكي محكوم بقوانين ثلاثة:
القانون الأول : وحدة وصراع الأضداد، ومعناه أن الشيء يحيا في حالة تناقض، ولكن هذا التناقض لا يعني التشتت وإنما يعني وحدة الشيء.
القانون الثاني : الانتقال من التراكمات الكمية إلى التغير الكيفي، ومعناه أن النقلة النوعية للمجتمع لا تتم إلا بتراكمات والنتيجة المترتبة على ذلك هي أن المجتمع الذي تمتنع فيه التراكمات يتوقف عن التطور.
القانون الثالث : نفي النفي، ومعناه أن المجتمع ينفي نظامه القائم بنظام جديد ثم ينفي نظامه الجديد بإحداث توليفة من النظامين القديم والجديد تأخذ بما هو إيجابي من كل منهما(2).
التطبيق على المجتمع المصري :
سبق القول إن الشيء ينطوي على نقيضه، فما هو النقيض الكامن في الثورة التي نشبت في مصر عام 1952م؟ إنها (حركة الإخوان المسلمين) فهذه الحركة لا يمكن فصلها عن مكونات تلك الثورة أو الانقلاب الذي تحول إلى ثورة، ولا أدل على ذلك من أن الصراع بين (الضباط الأحرار) و(حركة الإخوان المسلمين) كان قائماً في إطار وحدة غامضة.
وكان في ظنهم (الإخوان المسلمين) أنهم، بذلك، يدخلون في وحدة مع الثورة، ولكن من خلال الصراع وهو هنا الاغتيال إلا أن الاعتقالات التي مستهم أفشلت تطبيق القانون الأول للديالكتيك، وهو (وحدة وصراع الأضداد)، فلجأوا إلى الاستعانة بالقانون الثاني، وهو (إحداث تراكمات كمية يكون من شأنها إحداث نقلة كيفية) وهي هنا التحكم في حركة المجتمع بحيث ينتهي الأمر إلى الاستيلاء على السلطة، وبدأت الحركة هذا التطبيق بصدور كتاب سيد قطب (معالم في الطريق) عام 1957م وتحت شعار (الحاكمية لله)، وفي عام 1967م فسر (الإخوان) هزيمة (مصر) أمام (إسرائيل) عام 1967م بأنها مردودة إلى انتقام الله من عدم تطبيق مبدأ الحاكمية لله، وفي عهد الرئيس المصري السابق (أنور السادات) حدث تراكم آخر وهو تعاونهم مع (أنور السادات) من أجل تصفية (الناصرية) و(اليسار)، وبعد إتمام التصفية طالب (الإخوان) (السادات) بإعلان (الدولة الإسلامية) فرفض، وعندئذ، تم اغتياله في 6 /10 /1981م، وبعدها بدأ التيار الإسلامي الأصولي، بزعامة (حركة الإخوان)، التغلغل في جميع مؤسسات الدولة الخاصة والعامة، ثم تبلور هذا التغلغل في ظاهرة (نقاب المرأة) إلى الحد الذي فيه فرض النقاب على الصغيرات في المدارس، وتبلور هذا التغلغل أكثر وأكثر فيما قام به (الدعاة) من الرجال والنساء في المساجد والزوايا التي سيطروا عليها، خاصة في الأحياء الشعبية، من نشر الفكر اللاعقلاني وفرض فتاوى تروج للفكر الخرافي، ثم تدعم هذا التغلغل بإنشاء (القنوات الدينية الفضائية) من أجل السيطرة الكاملة المحكمة على عقول الناس، أما مجال التعليم العام والعالي فقد كان، منذ البداية، هو الركيزة الاستراتيجية لنشر فكر الإخوان في المجتمع المصري، وقد نجحوا نجاحاً باهراً في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي ابتداءً من المرحلة الأساسية في التعليم مروراً بالمرحلة الثانوية ووصولاً إلى التعليم العالي والذي يتحكم فيه الآن أساتذة ينتمون إلى فكر الإخوان مما دفعهم إلى تأييد وتدعيم ما سمي بـ (اتحاد الطلاب الحر) الذي يرفع شعار الإخوان، هذا بالإضافة إلى سيطرة التيار الإخواني على النقابات المهنية بالكامل.
كل ما سبق إيراده هو أدلة دامغة على نجاح جماعة (الإخوان المسلمين) المصرية في تطبيق القانون الثاني للديالكتيك، مما أدى إلى تطبيق القانون الثالث وهو (نفي النفي)، أي نفي الواقع الراهن للمجتمع، ثم نفي هذا النفي أي إحلال واقع جديد محله، وهو إعلان (الجمهورية الإسلامية) أو (الدولة الإسلامية).
مقاربة مع اليمن :
كل ذلك جرى وما زال يجري ما يشبهه في اليمن، ولكن مع فروقات سببها شيوع الفساد المالي والإداري والتكوين القبلي لأجزاء كبيرة من المجتمع اليمني، وعدم وجود جيش وطني قوي متماسك، وهيمنة مراكز القوى القبلية والعسكرية المتحالفة مع الرأسمالية الطفيلية بدلاً عن الدولة المدنية الحديثة، وضعف القضاء وتبعيته للسلطة العسكرية القبلية وحلفائها من رأسمالية طفيلية ونُخب ثقافية انتهازية ... الخ.
هذه التحولات الخطيرة حدثت وما تزال في غفلة من المثقفين التقدميين اليمنيين الذين يطلق عليهم (التنويريين)، والمقصود بهم الأفراد المشتغلين بالكتابة سواء الصحفية أو الأكاديمية أو الأدبية، والرافضين لفكر (الإخوان المسلمين) المتخلف وأعوانهم من الجماعات الإرهابية التكفيرية ولسيطرتهم على المجتمع، والثابت هو أن معظم هؤلاء المثقفين ما زالوا منشغلين بقضايا لا تمت إلى ما يحدث في المجتمع بصلة.
وعندما انغمس المثقف اليمني في هذه القضايا، فإنه في نفس الوقت، تنازل طواعية، عن دوره الجوهري الذي يكمن في مسئوليته تجاه تغيير ذهنية المواطن اليمني وإعادة بناء عقله على أسس الحداثة والتنوير، ونتج عن هذا التنازل حالة موات وسكون أي حالة خروج عن قوانين الديالكتيك في مقابل حركة التراكم التي كان يقوم بها (الإخوان المسلمون) وأعوانهم من التيارات التكفيرية في الجامعات والمساجد وغيرها وما زالوا، وذلك من أجل التمهيد للاستيلاء على السلطة، والسؤال إذن: متى نقول عن المثقفين أنهم أصبحوا على وعي بهذه القوانين وأنهم في الطريق إلى تطبيقها(3)؟!
الهوامش:-
(1) د. منى أبو سنة، مجلة (روز اليوسف)، العدد (4097) وتاريخ 16: 22 /12 /2006م.
(2) م. س.
( ) م. س.