تكشف الإحصاءات بوضوح حجم هذا التراجع. ففي عام 2023 بلغ إنتاج عدن من الأسماك نحو 8,095 طنًا فقط، بقيمة سوقية تقارب 22 مليار ريال يمني. وفي عام 2024 ارتفع الإنتاج قليلًا ليصل إلى نحو 9,570 طنًا، بقيمة تجاوزت 28 مليار ريال. أما الأشهر التسعة الأولى من عام 2025 فحملت مؤشرات مقلقة، إذ لم يتجاوز إجمالي الإنتاج 4,944 طنًا، رغم ارتفاع القيمة السوقية إلى أكثر من 24 مليار ريال نتيجة زيادة الأسعار لا الكميات.
هذه الأرقام ليست بيانات جافة، بل نتاج فرق بحثية موثوقة، وتعكس واقعًا صعبًا يعيشه الصيادون في عدن، ومعه قطاع حيوي يعاني من الجمود والتراجع. ويأتي في مقدمة الأسباب تواضع معدات الاصطياد، إذ ما تزال القوارب التقليدية تفتقر إلى التقنيات الحديثة القادرة على الوصول إلى الأعماق البحرية، ما يجعل معظم عمليات الصيد مقتصرة على الأسماك السطحية القريبة من الشاطئ، وهي أنواع تتأثر بالمواسم وتغيّر الطقس.
غياب معدات الصيد القاعية يحرم عدن من ثروة أعمق وأكثر تنوعًا وقيمة، فيما تكتفي القوارب الصغيرة بصيد الأسماك السطحية مثل السردين والبياض وأنواع أخرى، بينما تبقى الأسماك القاعية ذات القيمة السوقية العالية والجدوى التصديرية خارج المتناول. ومع غياب هذا التنوع، يتقلص نصيب عدن في السوق المحلية ويتراجع إنتاجها للسوق المحلية وللتصدير معًا.
ولا تنحصر المشكلة في المعدات وحدها؛ فتكاليف التشغيل الباهظة ترهق الصيادين التقليديين. فأسعار الوقود والزيوت وقطع الغيار مرتفعة بشكل ينهكهم ماليًا، إضافة إلى تكاليف التخزين والنقل ورسوم التفريغ والإنزال السمكي. كما أدت الاضطرابات المناخية في السنوات الأخيرة، من رياح موسمية قوية وارتفاع درجات الحرارة، إلى تقليص أيام الصيد وتعطيل نشاط القوارب لفترات طويلة.
كل هذه العوامل جعلت عدن، التي كانت يومًا مركزًا للأسماك والتجارة البحرية، الأقل إنتاجًا بين المحافظات الساحلية. فقد أصبحت محافظات مثل المهرة وحضرموت وشبوة وأبين تتصدر المشهد، بينما بقيت عدن، رغم تاريخها وموقعها، تعتمد على أساليب صيد تقليدية لا تواكب العصر ولا تستخرج ثروتها كما يجب.
والمفارقة الأكبر أن عدن، المدينة المطلة على خليج غني بالأنواع البحرية، تستورد اليوم الأسماك أكثر مما تصدر. فأسواقها تستقبل كميات قادمة من البحر الأحمر وبحر العرب، وحتى من المحافظات المجاورة لخليج عدن، لتغطية الطلب المحلي بعدما بات الإنتاج المحلي غير قادر على الوفاء بالاستهلاك الداخلي. إنها صورة مؤسفة لمدينة بحرية لم تعد قادرة على الاكتفاء من بحرها.
ورغم ذلك، يبقى الأمل قائمًا. فعدن تمتلك مخزونًا سمكيًا استراتيجيًا كبيرًا يمكن أن يشكّل رافعة اقتصادية حقيقية لو أُحسن استثماره. والمطلوب هو تطوير معدات الصيد، وإدخال تقنيات حديثة تتيح استغلال الأعماق دون الإضرار بالبيئة البحرية أو استنزاف المخزون العام، إلى جانب إنشاء مصانع للتعليب والتبريد ومراكز إنزال حديثة تعيد للمدينة دورها كمركز إقليمي لتجارة الأسماك.
في النهاية، ما تحتاجه عدن ليس مجرد دعم موسمي للصيادين، بل رؤية بحرية وطنية متكاملة تنظر إلى البحر كفرصة استراتيجية لا كمصدر رزق مؤقت. فالبحر الذي كان يومًا سر ازدهار عدن لا يزال هناك... ينتظر فقط من يحسن الوصول إليه.
