وكما رصدت الكاتبة فاطمة أبو الأسرار، ودوّنه بوضوح لافت الدبلوماسي الدولي والسفير البريطاني الأسبق في اليمن «إدموند فيتون–براون»، فإننا أمام تحوّل بنيوي في عقيدة الجماعة ونمط إدارتها للصراع، تحوّل ستكون له آثار مباشرة على أمن البحر الأحمر، والبنى التحتية للطاقة في الخليج، والاقتصاد العالمي القائم على ممرات الملاحة الحيوية.
سردية مُعَدّة لإلزام الخصوم بالتصعيد
يبني الحوثيون في سرديتهم الجديدة رواية متدرجة ومُحكمة، هدفها صناعة شرعية مسبقة للتصعيد القادم. ففي هذه الرواية تُقدَّم سلطنة عُمان كوسيط «نزيه» خُذل في اللحظات الأخيرة، بينما تُصوَّر السعودية طرفًا رضخ لضغوط أمريكية–إسرائيلية، في محاولة واضحة لتفكيك التحالفات وخلق رأي عام إقليمي متعاطف. كما يُستدعى نشاط المبعوث الأممي هانس غروندبرغ ليُقدَّم دليلًا على أن العملية السياسية كانت قاب قوسين من التقدم، قبل أن تتدخل «قوى خارجية» لإفشالها. هذه السردية مصمّمة بعناية لإعادة صياغة مشروعية قرار الحرب وإظهار الجماعة كفاعل «مُجبر» لا «مبادر»، بحيث يتحمّل خصومها - دوليًا وإقليميًا - تكلفة المرحلة المقبلة من التصعيد المتوقع.
تهيئة متعمّدة لبيئة العمليات
اللافت في الخطاب الأخير لقناة «المسيرة» أنه تضمّن مستوى من التفاصيل التشغيلية لم يظهر في أي مرحلة سابقة من مراحل تعثر التفاوض. فالرسائل بدت أقرب إلى «بيان عملياتي» يحدّد وجهة المرحلة المقبلة: التهديد العلني بـ«شلّ الملاحة» في باب المندب، والإشارة إلى استهداف منشآت نفطية وصناعية في الخليج، والادعاء بامتلاك قدرات «فرط صوتية»، والتأكيد أن العمليات في البحر الأحمر أصبحت جزءًا من «توازن ردع جديد». هذا النوع من الخطاب يعكس انتقال الحوثيين من الضغط الكلامي إلى مرحلة تمهيد دُفعي محسوب، وهي سمة رافقت كل تصعيد كبير خاضته الجماعة منذ 2015.
لماذا تغيّر المزاج الدولي؟
يأتي التحذير الأخير لإدموند فيتون–براون، بدعوته إلى تشكيل تحالف يملك القدرة على وقف التهديد الحوثي، باعتباره انعكاسًا لتحوّل حقيقي في المزاج الدولي. فبعد سلسلة من الهجمات البحرية وتوسّع رقعة الاستهداف وتعطّل خطوط تجارة عالمية، بات واضحًا أن الاعتماد على الدوريات البحرية وحدها لم يعد كافيًا، وأن الضربات الجوية المتقطعة لا تمنع إعادة بناء القدرات، وأن إدارة الأزمة بآليات محدودة لم تعد تواكب الانتقال الحوثي إلى مستوى عملياتي أعلى سقفًا. وتزداد أهمية هذا التحوّل مع صدور «استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025»، التي منحت البحر الأحمر وباب المندب مكانة صريحة ضمن «المصالح القومية الحيوية للولايات المتحدة»، وشدّدت على منع سيطرة الوكلاء المسلحين على الممرات البحرية، وعلى دعم ترتيبات يمنية - خليجية مشتركة لحماية الموانئ وتعزيز القدرات اليمنية البرية والساحلية.
الركن الغائب.. رغم أنه الأكثر حسمًا
يبقى العنصر الأكثر تغييبًا في المقاربات الدولية هو الدور المركزي للقوات البرية اليمنية. فالصراع لا يمكن ضبطه من البحر والجو وحدهما. صحيح أن التحالفات البحرية تحمي خطوط الملاحة، وأن الضربات الجوية تعطل بعض القدرات، لكن هذا لا يطال البنية التحتية الأرضية التي تُنتج عسكرة الحوثيين: مثل ورش تصنيع الصواريخ والمسيّرات، مراكز القيادة والسيطرة، والشبكات اللوجستية والعقائدية المتجذرة داخل اليمن.
وقد أكّد معالي وزير الدفاع اليمني، الفريق الركن د. محسن محمد الداعري، في لقائه الأخير مع كبير المستشارين العسكريين البريطانيين في الشرق الأوسط، الأدميرال إدوارد جراهام، أنّ تعزيز قدرات القوات المسلحة اليمنية يمثل شرطًا جوهريًا لاستعادة الردع وهزيمة المليشيات الحوثية، وأن القوة البرية اليمنية هي الركن الذي لا يمكن تجاوزه في أي مقاربة جدية للأمن الإقليمي.
الحلقة التكرارية.. وكيف كسرها؟
لقد أنتج تجاهل تطوير القوة البرية اليمنية دورة ثابتة من التصعيد يمكن التنبؤ بها: تصعيد حوثي، ثم ردّ دولي محدود، فهدوء مؤقت، ثم إعادة بناء القدرات، فتصعيد جديد أشد خطرًا. وهكذا أصبح أمن الطاقة والملاحة واستقرار الإقليم رهينة معادلة ناقصة، لا يمكن كسرها إلا بإعادة الاعتبار للقوة اليمنية على الأرض.
خاتمة: منعطف لا يحتمل التراخي
إن رسائل الحوثيين الأخيرة ليست مجرد أزمة عابرة، بل منعطف تاريخي يعيد تشكيل مشهد الأمن الإقليمي من البحر الأحمر إلى الخليج. أدوات الردع البحرية والجوية ضرورية، لكنها غير كافية دون ركيزة يمنية برية فاعلة تُدمج في صميم معمار الردع الإقليمي، فهي وحدها القادرة على تفكيك مصادر القوة الحوثية وإعادة تشكيل الموازين وفتح الطريق نحو سلام مستدام.
هذا النص هو النسخة العربية المنقّحة والموسّعة للمقال المنشور باللغة الإنجليزية في صحيفة The Washington Outsider بتاريخ 8 ديسمبر 2025م.
