الخليل/ سمير حاج:رحل جبرا ابراهيم جبرا وجميل فران ما زال من بغداد يعيش القدس ذكرى وحلما مرا. "لقد نسيت أسفاري، وما عدت أستطيع أن أذكر ملامح أية مدينة في العالم سوى مدينة واحدة. مدينة واحدة أذكرها، أذكرها طيلة الوقت. تركت جزءا من حياتي مدفونا تحت أنقاضها، تحت أشجارها المجرحة وسقوفها المهدمة، وقد أتيت الى بغداد وعيناي ما زالتا تتشبثان بهاالقدس "صيادون في شارع ضيق"، دار الآداب، بيروت 1974. ص. 16-15 ) هذا الفلسطيني التائه مثل أبطال رواياته، والمؤمن بفكرة " الإنسان الكوني " الرافض مقولة هاملت الرهيبة على حد تعبيره- " إني والله لأستطيع أن أحصر في قشرة جوزة، واعد نفسي ملك الرحاب التي لا تحد، لولا أنني أرى أحلاما مزعجة " ( تأملات في بنيان مرمري، رياض الريس - لندن، ص. 131)، لم ينل ما يستحقه من نقد وتقدير جدير بإبداعه المتعدد الجوانب، رواية ونقدا وشعرا. هذا المبدع، صاحب البنيان المرمري في الرواية العربية المعاصرة، وأحد أبرز الأصوات الروائية العربية الناجحة في استيعاب تقنيات الرواية الغربية وتوظيفها خاصة الرؤى المتعددة " Points of View " والارتجاعFlash back والاستباق Anticipation، بقي جنديا مجهولا في عالم يرقص فيه أنصاف المثقفين، وأصحاب الاقلام الرديئة. عاش جبرا بعيدا عن الأيديولوجيات، ظانا منه، أن الأدب في مجتمعنا فوق التجزيئية، والخطابية الجوفاء. لم يكن جبرا طائرا يغني في غير سربه، بل كان في طليعة السرب، ذو صوت مثقل بالمأساة الفلسطينية والهم العربي. كان جبرا روائي الأرض، ولم يكن روائي الكواكب الوهمية، فالسفينة رغم مدلول عنوانها البحري هي رواية الأرض والجذور، تتلاحم وتتفاعل فيها الأصوات العراقية والفلسطينية، وتحكي الهم والوجع العربي الإقليمي والعام، فعصام السلمان المهندس العراقي وخريج أكسفورد. بعد ان حرم الزواج من لمى عبد الغني، زميلته في أكسفورد، بسبب نزاع عشائري، يقرر الهرب منها عن طريق رحلة قصيرة، يقوم بها لمدة اسبوع على ظهر ( الهركيوليز). إحدى سفن النزهات البحرية اليونانية، التي تسافر من بيروت الى أثينا ومن ثم الى نابولي. حيث سيقلع من هناك في طائرة الى لندن. وفي السفينة يلتقي عصام من حيث لا يدري، مجموعة من الهاربين أبرزهم لمى عبد الغني، التي خططت لهذه الرحلة كي تلتقي عصام، وتعيش معه عواصف جنسية في قمرة السفينة، على مسمع من زوجها فالح عبد الغني، الذي إنتحر بشكل مدروس على غرار " ابالسة" ديستويفسكي، بعد ان عاش مأزوما مهزوما. إن جبرا في السفينة ، رفض هجرة المثقفين العرب. رغم غياب الحرية الفكرية في العالم العربي ورغم القمع والتعذيب، هذا ما يقوله وديع عساف لعصام السلمان في نهاية الرواية، أثناء التحضير لنقل جثمان فالح الى بغداد " حريتك هي في ان ترفض الهرب حريتك هي في ان تكون مهندسا في أرضك- مهما ضاقت بك وتفننت في إيذائك " ( ص 237). كما رأى في الغربة "أوجع اللعنات". لقد حملت السفينة الهم العربي قاطبة، وقدمته بجمالية روائية مميزة، من خلال أتباع تشظي الزمن واعتماد الأصوات المتعددة. Polyphonic Novel فمحمود الراشد، الأستاذ الجامعي الذي تعرض للأضطهاد والتعذيب بسبب نشاطه السياسي ينهار حين يشاهد النادل اليوناني في السفينة، متوهما أنه نمر العجمي، رجل المخابرات، الذي عذبه في السجن ".. نمر العجمي يا وديع، شهريان كاملان، ستون يوما عذبني بالكرباج، وعلقني بالمروحة. وحبسني في المرحاض، وسقاني بولي.... أما رأيته في ثياب ملاح يوناني !" ( ص 136) لقد عالج جبرا في السفينة قضية الأرض والجذور، فعصام السلمان الهارب الأول والحقيقي في السفينة، يهرب من أرضه وجذوره، لأنه يرى فيهما لعنة وجريمة، بسببهما قتل والده عم لمى، لذا باع معظم أرضه " فرحا وطربا"، وقرر الهرب الى الغرب.أما وديع عساف الفلسطيني، المحروم أرضا، يرفض فكرة الهرب والهجرة، وهو متعلق بالأرض والجذور.وقد قال جبرا في موضوع الهروب من السفينة "أن الهروب من السفينة عنصر أساسي طبعا، فأنا أصور أناسا يهربون، ولكنهم في النهاية يكتشفون أنهم لا يستطيعون الهرب، أو أنهم يجب ألا يهربوا، أو أن خلاصهم يكمن في العودة إلى أرضهم، في العودة الى الصخر، والصخر هو كل شيء، ولذلك وضعتهم في سفينة بعرض البحر، هؤلاء عزلوا أنفسهم، وأبحرت بهم هذه السفينة في المياه، من مدينة إلى مدينة، فكأنهم يتصورون أنهم يستطيعون أن ينسوا تجربتهم الحقيقية، تجربتهم التي هي أعماق كيانهم، ولكنهم افكتشفوا انهم يحملون تجربة الصخر في انفسهم، وأن خلاصهم في النهاية هو أن يعودوا، والا ينتحروا كما انتحر فالحلأنه لم يستطع أن يعود.وخلاص العربي هو في عودته الى الصخر، في مجابهة قضيته في بلده " ( الفن والحلم والفعل، بيروت:المؤسسة العربية 1988. ص 488-489 ). لقد انحاز جبرا الى الشخصية الفلسطينية وجعلها مركز الدائرة والمحرك الأساسي في المجتمع العربي الغريب. هذا ما تجسده شخصية وديع عساف في السفينة ووليد مسعود في البحث عن وليد مسعود، فوليد مسعود مصبوغ بهالة من الأسطورية "فوليد أنما هو ذالك الفلسطيني الرافض، الرائد، الباني، الموحد، (أذا كان لأمتي أن تتوحد)، العالم، المهندس، التكنولوجي، المجدد، المحرك للضمير العربي بعنف" (ص 322).ومن ناحية فثانية صور جبرا المآسي والعقبات التي تحول دون تنقل الفلسطيني، من بلد الى آخر "لقد كانت مصيبة الفلسطيني لا النفي عن مسقط رأسه فحسب، بل الصعوبة المفروضة عليه في التنقل من بلد إلى بلد" (البحث عن وليد مسعود، ص 110 ).هذا المبدع صاحب الفن التعددي، الروائي، القاص، الشاعر، الناقد، الرسام، المترجم الحاذق الذي أغنى المكتبة العربية بروائع شكسبير وفوكنر وجيمز فريزر وألكسندر أليوت وبيكيت ولافونتين وغيرهم من أساطين الأدب العالمي هو ذاك الطفل المثير في البئر الأولى. إنه في الخامسة من عمره، حافي القدمين، يتعلم في مدرسة الروم الأرثوذكس في بيت لحم، بين خمسين صبيا من اعمار شتى، في غرفة واحدة، وعلى يد معلم واحد. والده عامل بناء فقير، لكنه يحفظ الكثير من الحكايات الشعبية، المستقاة بأغلبها من ألف ليلة وليلة، والتي رواها على مسمع جبرا الطفل، غارسا فيه من حيث لا يدري، البذرة الأولى التي نمت واصبحت شجرة ثقافية باسقة. لقد كتب مكسيم غوركي في رائعته طفولتي : " ولكن الحقيقة فوق كل نزوة شخصية، وأنا لا أكتب هنا عن نفسي، بل عن تلك البيئة الخانقة الرهيبة التي كان يعيش فيها، وما يزال، الروسي العادي". (طفولتي، بيروت: مكتبة الحياة، ص 20).إذا كان الكاتب الإنساني غوركي قد وصف معاناته ومعاناة باقي البشر، من الأمتهانات والآلام الأنسانية بدءا بوصف غربته في بيت جده، وغربة البشر في موطنهم الأم، وعداوة جده الخانقة الذي لا يكف عن جلده وضربه، وصراع خاليه واقتتالهما على أملاك جده وصور الفقر والجوع، وذل وعذاب الفلاحين وشقاء والدته وبؤسها في دار أبيها، وغيرها من الأهوال التي لقيها في طفولته، والتي تجسد تلك البيئة الخانقة التي عاشها الروسي العادي، فإن جبرا في البئر الأولى يرصد الطفولة القاسية التي عاشها الفلسطيني التلحمي في العشرينيات من القرن الماضي. رحل ذاك الطفل التلحمي في البئر الأولى والذي شمخ وأصبح أنموذجا للمبدع العربي الموسوعي في القرن العشرين.
|
ثقافة
في الذكرى الـ12 لرحيل جبرا إبراهيم جبرا
أخبار متعلقة