قصة قصيرة
المخزن هنا .. والدارة، هنا كما كانا دائماً، منذ قطنتهما لأول مرة مع المرحوم زوجها قبل سنوات لم تحص عددها.هنا أنجبت أولادها، هنا شبوا، مازالت لهما نفس الرائحة العفنة والرطوبة المزمنة رغم رائحة البخور وأحياناً اللبان.السقف الخشبي، تتدلى منه مروحة مصدية، الحمام العفن، المطبخ الزفر المدهون بزيت الطبيخ، السرير الحديد، الدولاب "الفرميكة"، الطاولة وفوقها التلفزيون، الستائر المتدلية، المشمع الذي يغطي الأرضية، مازالا يحتفظان ببقايا من لونيهما الأحمر والأبيض، كل شيء في مكانه المعتاد، كل شيء، أصرت على أن تبقي كل الأشياء في مكانها ورفضت توسلات أولادها بشراء اثاث جديد لها أو إعادة طلاء الجدران بزيت جديد.كنست المخزن والدارة وأطلقت فيهما البخور. صلت ركعتين وأرسلت دعواتها إلى السماء بأن تحفظ لها أولادها، وأن يوفقهم الله، ويرزقهم في كل خطوة سلامة، وأخذت تنتظر مجيئهم كما اعتادت في مثل هذا الوقت.جاءوا تباعاً ذرفت دموعها حضنتهم، واجتاح فؤادها فرح غامر كادت ترقص معه: ياللسعادة التي تغمرها، ليتها تستطيع أن توزعها على الجيران على المدينة، على الكون كله!أحست أن المخزن والدارة لا تتسعان لفرحتها، فرحها اليوم ليس كأي فرح، لأول مرة تعرف أن للجدران أحاسيساً وأنفاساً، لأول مرة ترى الفرح يشع من الجدران، وأنها مثلها ترقص تطير من السعادة، احساس غريب ملأ كل كيانها.جلسوا جميعاً أمامها فحست ابتساماتهم على فؤادها، تأملت وجوههم مطولاً، غمرتها مشاعر عميقة أكثر من أي يوم آخر، كيف ترد هذه الوجوه هذه العيون، هذه السعادة عنها؟ كبروا أمام عينيها، كبروا وأحداً وأحداً، رأتهم صغاراً يلعبون في حجرها، يملأون المخزن والدارة بالصخب اللذيذ، ويحملون شقاوتهم إلى "الحافة"، كيف اتسع لهم المخزن والدارة؟ورأتهم يتكومون على فراش واحد في الدارة، لتسترق و"أبو العيال" لحظة متعة لذيذة عندما يغطون في نومهم العميق، ورأتهم وهم يتخطفون اللحاف، ثم وهم يتزاحمون في الصباح على الحمام الوحيد ليلحقوا بمدارسهم، تذكرت ضحكهم، بكاءهم، مرضهم، وكيف كان ينخلع قلبها مع كل وجع أو ألم يحس به أحدهم فيجافيها النوم، تذكرت شراهتهم وهم يبتلعون الرز المغموس بالصانونة وقطعة السمك، أما اللحم فمن العيد إلى العيد.. أو في المناسبات السعيدة.جاء "أبو العيال" إلى ذاكرتها، يالهذا البياض! يا لهذا النور الذي يغمر وجهه! يرتدي فرحاً وملابساً بيضاء، قالت له: "لقد أوفيت بوعدي، ونفذت وصيتك".قال لها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: "أمانتك الجهال، علميهم أحسن علام". دهسته سيارة شحن مسرعة وهو عائد من عمله في الميناء، رحل وترك العبء كله عليها، لم تستطع أن تتخفف من هذا الإرث، ثمة أفواه جائعة، ثمة أجسام عريانه، ثمة عمل مضن، ثمة تعب، حزن، دموع، وسهر ليال، تذكرت جلوسها في الشارع، أمام بيتها تبيع "المعبال"، في البداية فعلت ذلك على استحياء، وكان عدد المشترين قليلاً والمعبال نفسه رديئاً، لكن سرعان ما تحسن وضعه فتكاثر عليها الزبائن إلى درجة انهم نسيوا اسمها الحقيقي وأطلقوا عليها "أم المعبال"، في البداية تضايقت من ذلك لكنها مع الوقت اعتادت عليه، قالت لنفسها: أم المعبال أم العيال طالما يبقي علي وعلى أولادي أحياء ويقينا ذل السؤال".نظرت إليهم بحنو، نهض الفرح في ينابيعها، تملت أبنها البكر، أخذ الملامح والشارب الكثيف من أبيه، لاتزال تراه بالسروال القصير والقميص الأبيض.من كان يصدق أن "الولد الشقي" الذي يعارك أولاد الحافة ويطارد القطط الضالة في "الجلالي" هو الرجل الجالس أمامها ، وقد صار طبيباً؟!نقلت ناظريها إلى الثاني، هس في وجهها، تذكرته طفلاً يلبس سراويل أخيه المرتقة، دائماً تراه مكباً على دفاتره، يرسم خطوطا وخربشات لا تعرف لها معنى، كانت تنهاه عن هذا العبث، وتطلب إليه الانتباه إلى دروسه، لم يكن يعرها اهتماماً ويعود إلى فرشاته، لو كانت تعرف أنه سيغدو مهندساً معمارياً لما نهته عن شيء.وأنت يافتاتي، القت عليها نظرة هي الأخرى:من ذا يفوقك جمالاً وذكاءً، تشبهين أمك كثيراً، أنت امرأة من عنبر وعود. هل تذكرين كيف كان يسيل المخاط من منخريك؟ كيف كنت تعودين من المدرسة متسخة وباكية؟! كيف كبرت بهذه السرعة وصرت أماً ومدرسة.ضحكت في سرها، ضحكت بسعادة وانشراح، آه يا أولاد أم المعبال، كم كبرتم! وكم أن أمكم سعيدة بكم وفخورة؟! أنتم الآن فرحي وسرور قلبي، وهذي المخزن والدارة يشاركاني ويقاسماني ذلك، وهذه الجدران لو تنطق لسمعتم ان كل ما أقوله حقيقي، وانها مثلي ترقص من السعادة والفرح! لو أن الجدران تتكلم، لو أنها ... لادركتم انها تتنفس وتحس كما تحسون وتتنفسون، كل ذرة في هذه الجدران فيها شيء مني ومنكم. قاسمتني عرقي وصداعي، وتركتم عليها أثراً من مخاطكم وخربشات اقلامكم، لو أنها... لقالت لكم انها عمري وعمركم وعمر أبيكم الميت! سهري وتعبي وما أنتم عليه اليوم. تذكروا أنكم لستم أولادي فقط.. أولاد أم المعبال بل أولاد .... وأشارت إليهم.[c1]عدن 30 مارس 2006م[/c]