وطنيات فريد الاطرش (1-2)
أن يصدر الفن عن رؤية ، فمعنى ذلك امتلاكه لمكونات وجوده، ولاسباب صموده امام تغيرات الزمان والمكان، ليكون اضافة نوعية يحتفي بها التراث الانساني ، وتستقي منه الاجيال، قيماً جمالية وانسانية، لما له من كينونة فنية متجددة..ولعل في ما قدمه الموسيقار فريد الاطرش من اعمال في رحلة عطائة الابداعي، وما حظي به من لقب ( لحن الخلود) واستلهام الجماهير لتراثه عاطفياً وفنياً ، دليلاً على ماتمنحه الرؤية ، من عمق وثراء الدلالة ، لمفردات العمل الابداعي، في اطاره العام ، لينال بذلك ، ديمومة جمالية وفكرية تتخطى به إشكالية الزمان والمكان.طيلة خمسين عاماً، الممتدة من عشرينيات القرن الماضي ، الى مطلع سبعينياته ظل الموسيقار فريد الاطرش ( 1913- 1974م) محتضناً بين حناياه، لحظات تاريخية فاصلة، وتحولات كبرى، مر بها الوطن العربي، وبوعي قومي، ادرك ابعادها وتداعياتها وبعاطفة جياشة عاش نضال الامة العربية وتطالعاتها، لتتكون لديه رؤية عروبية، كان لها فعلها القوي، واثرها الواضح ، في منح فنه هوية شرقية اصيلة، تناولت في محتواها دلالات وطنية، انبعثت من خضم احداث تلك المراحل، بنقائصها ومزاياها، فكان فريد الاطرش صوت وجدان الامة العربية، وعاملاً فاعلاً من عوامل تاصيل هويتها، وتاكيد وجودها، في مواجهة اساليب التغريب، واشكال الاحتواء، التي سعت - ومازالت - الى افراغها من جوهرها، بغية الاجهاز والقضاء عليها، تحت شعارات، وبغطاء من مسميات عدة،لعل اخرها، مانحن فيه اليوم من ( عولمة ) .. و( شرق اوسط جديد).اذ وقف فريد الاطرش ومنذ اكثر من خمسين عاماً، بإيمان ، وبإبداع مذكراً ومفتخراً بالعروبة، وبتاريخ زاهي وزاخر بالامجاد وبأرض كانت مهبط الاديان كلها:[c1]نحن للتاريخ امجاداً بنينا *** ورسالات الهدى بين يدينا[/c]نشأة ( فريد الاطرش) في بيئة عربية خالصة ، وادراكه الفعلي لابعاد الصراع بين الوجود العربي والقوى الاستعمارية ( وليدة الحرب العالمية الاولى، وسقوط الخلافة العثمانية) اضافة الى مادفعته اسرته في جبل الدروز من استحقاقات ذلك الصراع وما ابدته من مقاومة وطنية باسلة عوامل اسهمت في تكوين رؤيته العروبية التي ظلت في حالة من النمو المستمر ومن الوعي اليقظ ومن الايمان العميق لتشكل في ذاته بنية عروبية متعددة المستويات : انتماءً، وشعوراً .. وفكراً، وابداعاً ، لتجعل منه صوتاً صادقاً ونغماً اصيلاً لوجدان الشرق العربي وتخلع عليه امارة الطرب ليتأكد لنا بذلك ان نهجه الموسيقي وطابعة الغنائي ما كان ان يكون الا تجسيداً اميناً لكيانه العروبي بكل مايحمله من مواقف العقل واملاءات الضمير وتدفق العاطفة فاذا به اول فنان يدعو الى الوحدة العربية بدءاً من اوبريت ( غناء العرب ) عام 1948م واوبريت ( بساط الريح) عام 1950م، وانتهاءً بأغنية ( حبيبنا ياناصر) عام 1970م.. ودون شك ان اجواء المقاومة التي عاشها فريد الاطرش في بداية عشرينيات القرن الماضي بمدينة السويداء محافظة جبل العرب في سوريا ونضال اسرته بزعامة سلطان باشا الاطرش التي تحكم جبل الدروز في سوريا والتي تقود حركة وطنية ضد الاستعمار ( وانتقال اسرته) من جبل الدروز في سوريا الى بيروت عندما اختار الفرنسيون ( والده) الامير فهد الاطرش ممثلاً لطائفة الدروز في لبنان ، وعندما بدأت المواجهات بين الفرنسيين والدروز .. ترك الامير فهد اسرته في بيروت لينضم الى صفوف المقاومة الدرزية في الجبل (1) كان لها اثرها الفاعل في غرس وتاكيد معاني العروبة والحرية والكرامة في وعي فريد الاطرش واستيعاب مدلولاتها منذ صغره، اذ تغنى بها ولم يبلغ اشده بعد وذلك حينما عرض عليه ان يشترك بنشيد ملحن ،لان ذلك سيرفع من قيمة التبرعات عندما يعلن ان الذي كان يغني سليل عائلة الاطرش ووافق فريد وكتب له شاعر سوري قصيدة سياسية تناسب هذا المقام فحفظها وذهب الى الجامعة من غير تردد ، وهناك غنى فريد:[c1]حق الجهاد عن الحرم *** فرض على كل الأممفابنـوا باسـياف الهمم *** مجد العروبة في القمم [/c]ثم استجمع فريد كل قوة في حنجرته الصغيرة ، واكمل القصيدة متأثراً :[c1]يـافـرنسا لاتعالي *** لا تقولي الفتـح طـابسوف تأتيك الليالي *** نورها لمع الحراب (2)[/c]هذا الوعي العروبي الذي ترعرع في اعماقه منذ الصبا، واعتزازه به كان سر اصالة فنه والسبب في شدة حرصه على نقاء وصفاء النغم العربي وفي خوفه وغيرته على تميز هويته الشرقية مثله مثل الشاعر الغيور على لغته الام، الحريص على صفاء لفظها وكأنما فريد بهذا المسلك قد جسد رؤيته العروبية من خلال موسيقاه واغنياته ليجذر قدر طاقته حب العروبة في اعماق ابنائها وليقارع بها كافة اشكال التغريب والاحتواء لذلك كان تمسكه بالشرقية في الحانه وبالعروبة في صوته يغذي في التونسي او المغربي او الجزائري الخاضع للاحتلال الفرنسي شعوراً مكبوتاً بعروبته لهذا كان اقبالهم الضخم على الاستماع لالحانه ومشاهدة افلامه وترديد اغانيه.. ان فن فريد الاطرش هو جزء من دفاعهم عن انفسهم ضد الاندماج والذوبان النهائي في عالم اخر، ودنيا وفن آخر جاء يكتسحهم من الغرب (3).غير ان الشرق لم يكن بالنسبة لفريد بستاناً او نهراً دفقاً من الانغام والمقامات الموسيقية يســــتلهم منه ماشاء من الالحان ،كيما يهز قلب الوجود :[c1]نغمـاتك من الفن الغربي *** والنغمة دي غربية عليهانا شرقي ولايهزش قلبي *** الا الالـحان الشـرقيـة[/c]بل كان ايضاً مصيراً ووجوداً تبذل لاجله الارواح:[c1]يام العيـون السعود *** سباني لونك الخمريياسحر من الشرق *** افدي الشرق بعمـري [/c]بعاطفة صادقة عميقة الدلالة تغنى فريد بالعروبة فشكل حب الوطن محور عاطفته ولعل قصيدة (نداء العلى) التي تغنى بها في مطلع حياته الفنية خير دليل على سمو عاطفته تجاه بلاد العرب:[c1]حدثيني عـن الامـاني مليا *** ليــس هذا وقـت التجني عليامهدي بالرضاء سبيلاً علّني *** ابلغ المجـد والمكان العليـاوإذا لـم تـر البــلاد وفائـي *** اتراني الحسان في الهوى وفيا لـك حبـي وللبـلاد حياتي *** ولنفسـي مـايعـرف الناس فيا[/c]وليس الى الشك سبيل في ان وحدة مصر وسوريا عام 1958م بقيام (الجمهورية العربية المتحدة) مثلت تجسيداً عملياً لرؤية فريد الاطرش العروبية حيث وجد فيها بدء تحقيق حلمه في وحدة العرب علي ارض الواقع فقدم لها اجمل الحانه واعذب اغنياته، ومنها اغنيتا ( حموي يامشمش) و من الموسكي للحميديه) بصوت الفنانة ( صباح) ثم قدم بصوته اغنية ( مرحب مرحب مرحبتين) ليجعل من وحدة مصر وسوريا ، خطوة في طريق الوحدة العربية :[c1]ارض العروبة قبالك *** كلهـا اوطــانمن شرقهـا لغربهـا *** الكـل لـك إخــوانوين ما توجهت تجد *** منزلك في أمــانفي مصـر في نجــد *** في سوريا في لبنان[/c]لقد رأى فريد الاطرش في الفن رسالة ذات تأثير فاعلٍ، لذلك قدم من خلال فنه، المضمون الهادف الى جانب المتعة فإذا بأعماله الغنائية والموسيقية تنال استحسان الجماهير العربية وتقديرها العظيم حيث وجدت فيها صدق العاطفة وروعة الابداع.[c1]اغاني فريد الاطرش الوطنية[/c][c1]الهوامش[/c]1- سعيد ابو العينين: اسمهان لعبة الحب والمخابرات، كتاب اليوم، القاهرة ، 1996م ص 10 .2- عادل حسنين: فريد الاطرش لحن الخلود، الناشر امادوا، القاهرة 1996م، ص 27 .3- بليغ حمدي: دفاع عن الضياع الحضاري من كتاب ( فريد الاطرش بين الفن والحياة) دار المعارف ، القاهرة ، 1982م ص 65/64 .