هل تذكرون كافريلو برنسيبا؟ إنه المواطن الصربي الذي أطلق النار في 28 يونيو 1914 على الأمير النمساوي الأرشيدوق فرديناند فأرداه قتيلاً خلال زيارة رسمية كان يقوم بها لسراييفو. أدى ذلك الحادث إلى إشعال فتيل الحرب العالمية الأولى. فكانت النتيجة سقوط 9 ملايين و700 ألف ضحية. حتى أن الحرب العالمية الثانية لم تكن إلا نتيجة للحرب الأولى واستمراراً لها.. ثم الحرب الكورية وما تلاها..حتى ارتفع عدد ضحايا القرن العشرين إلى 140 مليون إنسان.صحيح أن الظروف التي كانت سائدة في أوروبا في ذلك الوقت كانت متوترة ومضطربة..إلا أنها كانت بحاجة إلى عود كبريت ليشعل النار. فكان حادث الاغتيال.الآن، هل تعرفون كارستن جيست؟إنه رئيس تحرير جريدة ''يولند بوسطن'' الدانمركية الذي طلب من مجموعة من الرسامين وضع تصور كاريكاتوري للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، ثم نشر الرسوم التي تلقاها بتاريخ 30/9 /2005 بكل ما تعكسه من كراهية وحقد وتحقير وافتراء. ربما يؤدي هذا الحادث إلى إشعال فتيل ''حرب الحضارات'' التي طالما نظّر لها وعمل من أجلها الاستراتيجيون في الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة وبذلك تلعب كوبنهاغن اليوم الدور الذي لعبته سراييفو قبل 92 عاماً. والذين يعرفون طبيعة الشعب الدانمركي الوادعة، والذين يعرفون كوبنهاغن حورية البحر الأسطورية يحزنون لهذا الدور المظلم الذي استدرجت إليه الدانمرك ربما من حيث لا تريد.صحيح أن علاقات العالم الإسلامي مع العالم الغربي، تتميز بالتوتر والاضطراب واللاثقة منذ ما قبل جريمة 11 سبتمبر . 2001 إلا أن هذا التوتر تصاعد بعد اتهام الإسلام بالإرهاب، واحتلال أفغانستان، واجتياح العراق، وتعريضه للتمزق المذهبي والديني والعنصري، وبعد تغطية وتأييد المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين المحتلة، وبعد التصدي لإيران بهدف منعها من تطوير صناعتها النووية، ثم بعد رفض احترام إرادة الشعب الفلسطيني في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي فازت بها حركة ''حماس'' الإسلامية.أدّت هذه الظروف مجتمعة إلى يباس العلاقات الإسلامية - الغربية* ولم تكن هذه العلاقات تحتاج إلى أكثر من عود ثقاب حتى تشتعل. فجاء حادث التطاول على النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قبل صحيفة ''يولند بوسطن'' الدانمركية ليؤدي هذه المهمة. لم يكن غريباً ظهور نوعين من رد الفعل على الإساءة. الأول غربي متعاطف مع الصحيفة الدانمركية على قاعدة حرية الصحافة، وحرية التعبير عن الرأي، والفصل بين مسؤولية كلٍ من الدولة والإعلام. وقد تمثل ذلك في إعادة نشر الصور الكاريكاتورية المسيئة في عدد من الصحف الغربية على أساس هذا المنطق. أما ردّ الفعل الثاني الذي شمل العالم الإسلامي من إندونيسيا حتى المغرب، فقد تمثل في موجات متتالية من الغضب والاستنكار. ويجري التعامل الغربي مع هذه الموجات بقليل من الاهتمام على أساس أنها مجرد عملية تنفيس عن الاحتقان، وأنها لابد أن تخمد وتتلاشى بعد أيام أو أسابيع بحيث يعود الحليب الدانمركي المجفف إلى الأسواق الاستهلاكية الإسلامية وكأن شيئاً لم يكن.إلا أن ثمة تخوفاً في العالم الإسلامي من أن تتحول هذه الموجات الصغيرة إلى موجات تسونامي لا يمكن التنبؤ بمدى الأضرار التي قد تلحقها في العلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي.هنا لابد من التوقف أمام الأمور الأساسية التالية:الأمر الأول هو أن الدين على إطلاقه أصبح يتيماً في المجتمعات الغربية باستثناء المجتمع الأميركي بالطبع حيث تكاد الولايات المتحدة تتحول كما يقول السيناتور هوارد دين من الحزب الديمقراطي الأميركي، إلى مجتمع أوتوقراطي في ظل إدارة الرئيس الحالي جورج بوش. فعندما تتعرض المسيحية إلى التهميش وحتى إلى الازدراء في صحف غربية عديدة، فإنه ليس مستغرباً أن ينال الإسلام أيضاً مثل هذا الأذى . لقد رفض الأوروبيون مجرد الإشارة في الدستور الموحد إلى أن المسيحية تشكل أحد مصادر الثقافة الغربية. هناك إصرار على تجاوز الدين جملة وتفصيلاً. وقد نشرت مقالات وكتب، وعرضت أفلام وثائقية تلفزيونية وأفلام سينمائية تتناول السيد المسيح وأمه العذراء بما لا يليق، وبما يجرح كرامة المؤمنين به من مسيحيين ومن مسلمين كذلك.وهكذا فإن المجتمع الأوروبي الذي يفتخر بأنه تحرر من الدين، فتح عينيه فجأة على وجود متدينين من نوع آخر من المسلمين المهاجرين من عدة دول إسلامية. وتشاء الأقدار أن يكون هؤلاء المهاجرون من دول فقيرة أو من مجتمعات إسلامية متخلفة، الأمر الذي أدى إلى تعميق هوّة اللامعرفة عن الإسلام في هذه المجتمعات الغربية. وإذا كان المؤمنون المسيحيون الغربيون قد اكتسبوا مع الوقت، وبكثير من المعاناة ثقافة تجاوز التطاول الإعلامي على مقدساتهم، فإن المسلمين المهاجرين لم يكتسبوا هذه الثقافة بعد. ثم إن العالم كله تقارب إلى حدّ التداخل عبر شبكة الاتصالات الالكترونية والفضائية بحيث إن الصحيفة الدانمركية ''يولند بوسطن'' أصبحت مع زميلة لها مغمورة من صحف الدرجة العاشرة هي صحيفة ''فيك أند أفيسن'' على شفة ولسان مليار و250 مليون مسلم!!.الأمر الثاني هو أن مصدر هذا التطاول على الإسلام ليس المسيحية، بل العلمانية الرافضة للمسيحية نفسها ولسائر الأديان الأخرى. وبالتالي فإن المسيحية هي شريك للإسلام في الأذى الذي تسببت به هذه الصحيفة الدانمركية، تماماً كما حدث من قبل في فرنسا عندما صدر قانون منع الحجاب الذي تستخدمه بعض الطالبات المسلمات في المدارس الرسمية. فقد شمل المنع كل الرموز الدينية الأخرى، بما في ذلك الصليب. ولذلك وقفت الكنيسة الفرنسية إلى جانب المسلمين في الاعتراض على هذا القانون. رغم ذلك أُقرّ القانون في مجلسي الشيوخ والنواب. وجاء إقراره ليس على قاعدة العداء للإسلام، وإنما على قاعدة التمسك بالعلمانية الفرنسية.هذا يعني أن أي رد فعل إسلامي لما نشرته الصحيفة الدانمركية يجب أن يبقى خارج إطار العلاقات الإسلامية- المسيحية. بل إن رد الفعل الإسلامي يمكن أن يستقوي بالمسيحية كما حدث في فرنسا، وكما حدث قبل ذلك في عام 1993 في القاهرة عندما عقد المؤتمر الدولي حول تنظيم الأسرة حيث عطل الموقف الإسلامي- المسيحي المشترك (ممثلاً بالأزهر والفاتيكان) تمرير مقترحات أميركية- أوروبية علمانية بإباحة الإجهاض وزواج المثليين. من أجل ذلك فإن من المهم جداً وضع المشكلة التي افتعلتها الجريدة الدانمركية عن غباء أو عن سوء نية في إطارها الحقيقي. وهو أنها مشكلة بين الدين والعلمنة، وليست مشكلة بين الإسلام والمسيحية. ففي الحالة الأولى يكون الإسلام والمسيحية في جبهة واحدة ضد الإساءة إلى المقدسات . أما الحالة الثانية فإنها تستدرج المسلمين إلى حرب دينية لا يريدونها ولا يؤمنون بها أساساً لأنها تتناقض مع العقيدة الإسلامية نفسها التي تعترف وتحترم، بل وتؤمن بالمسيحية رسالة من عند الله.الأمر الثالث هو أنه في خضم الضجة التي أثارتها الصحيفة الدانمركية وردود الفعل الإسلامية عليها التي لم تخلُ من الصخب، مرّت البيانات الاستنكارية للإساءة للإسلام التي صدرت حتى عن كنائس الدانمرك والنرويج دون أن يتنبه لها إلا القليلون جداً في العالم الإسلامي. تماماً كما حدث عندما اجتاحت القوات الأميركية العراق، فرفع البابا الراحل يوحنا بولس الثاني صوته مندداً بالحرب ووصفها بأنها غير أخلاقية وغير مبررة وغير مسيحية. وصدرت يومها كذلك بيانات مماثلة عن مجلس الكنائس العالمي في جنيف، وعن مجلس الكنائس الوطني في الولايات المتحدة، وحتى عن الكنيسة التي ينتسب الرئيس جورج بوش نفسه إليها. وحدث الأمر نفسه في بريطانيا إذ صدرت بيانات من أسقفية كانتربري ومن مجلس الكنائس الاسكتلندي تندد بقرار الحرب وتدين أصحابه. ولكن صدى هذه البيانات والمواقف المسيحية لم يصل إلى العالم الإسلامي. وإذا وصل فيكون متأخراً جداً، ومبستراً جداً، حتى وجدت مقولة الحرب الصليبية الجديدة من يصدقها.. ويتصرف على أساسها!!. في ضوء ذلك فإن من المهم فتح الطريق أمام الاتصال بين الكنائس الغربية، وخاصة في الدول الاسكندينافية والمؤسسات الإسلامية المعنية وخاصة منظمة المؤتمر الإسلامي، وقم، والنجف، والأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، وجمعية الدعوة الإسلامية العالمية، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.. وغيرها.وفي الحسابات الأخيرة فان الإساءة التي وجهتها جريدة سيئة السمعة في الدانمرك إلى المسلمين، وخطأ حسابات الحكومة الدانمركية في التعامل مع هذه القضية المؤذية، ثم محاولات استغلالها على نطاق واسع لإحداث شرخ جديد في علاقات العالم الإسلامي مع الغرب، لا يمكن احتواء أضرارها ومعالجتها إلا بلقاءات حوارية، تقوم على الاحترام المتبادل. فبالحوار فقط يمكن أن تقطع الطريق أمام كارستن جيست من أن يصبح كافريلو برنسيبا القرن الحادي والعشرين !!..* محمد السماك نقلا عن جريدة "الاتحاد" الإماراتية
|
مقالات
الفتيل الدانمركي لحرب الحضارات
أخبار متعلقة