ميرفت مسود باذيبتراه في كل الشوارع يبحث عن الأمان في كل الأزقة والأروقة في كل مرة تقع عينك عليه ذلك الطفل الذي حرم في طفولته من الحنان والاعتناء به.. عندما تنظر إليه ترى جسده من خلف الملابس الممزقة. وترى قدميه الحافيتين تغذ الخطى بحثاً عن القوت رغم حداثة عمره.. تنظر إليه وكأنه ينفذ عقوبة في محكمة الحياة.. هل هذا هو عقابه لأنه جاء إلى الدنيا دون إرادة منه لكي يتحمل كل ذلك التعب والإهمال.. هل يستحق ذلك الجسد الصغير الذي لم تكتمل نمو أعضائه بعد, تلك الحياة الخالية من الحياة الخالية من الحياة؟!فإذا جاء الليل تراه مرمي على الأرض في عز البرد بدون غطاء ولا أحضان تضمه وتشعره بالدفئ والحنان.. تلك العيون السوداء الصافية التي يقلبها في كل الاتجاهات لم ير سبباً لمجيئه إلى هذه الحياة.. هل جاء ليتشرد فيحيا حياة الخوف والوحدة رغم حداثة عمره.. لم يجد من يشعره بالأمان.. دائماً يسأل نفسه : “ لم أنا فقط من يتشرد؟! أنظر إلى الأطفال يلبسون الملابس الجيدة والنظيفة ويذهبون إلى المدرسة ثم يعودون إلى منازل كبيرة, لماذا لا أكون مثلهم؟.. لما لم أذهب للمدرسة!! ولماذا أرتدي الملابس الممزقة القديمة؟..تدور تلك الأفكار في مخيلته تسقط دموع تلك العينين البريئتين التي تبحث عن الحياة حتى تستقر على الأرض لماذا ليس لدي أم وأب؟!! أين ذهبوا؟ وأين أخوتي؟! لماذا ليس لدي منزل.. هل منزلي هو الشارع!! وأخوتي هم الذل والمهانة ووالداي هما ساعداي.. وفي الصباح اقترب من طفل ينتظر حافلة المدرسة.. نظر إليه بتمعن وتفحصه بدقة وبينما هو كذلك كان ينظر إلى نفسه لما هو لديه الملابس النظيفة والأحذية الجديدة.. وشعره نظيف وجميل ومسرح ولديه الطعام الكثير والشراب.. لماذا؟.. لماذا؟..بدأ يقترب منه حتى جلس بجانبه وسأله : ما اسمك؟ فقال الطفل : لم تسأل!! لاشيء أريد أن.. لا تقترب مني أذهب.. فقاطعه هل أنت ذاهب للمدرسة؟ فأجابه نعم.. ومن يعتني بك.. فقال: أمي.. هل لديك إخوة ووالد.. نعم.. وراح الطفل يشرح له عن عائلته وملابسه وألعابه وإخوته وهو يستمع إليه بتمعن وكان تارة يضحك وتارة أخرى يكتئب.. ونصت إليه وهو يشرح له عن أصدقائه في المدرسة والمربية الطيبة فقاطعه صوت الحافلة فصعد وتركه ينظر بتلك العينين الممتلئة بالحياة الباحثة عن كل ما قال له ذلك الطفل.. ثم ذهب يبحث عن قوته في تلك الشوارع الواسعة التي يجهل عنها الكثير.. وفي مرة تجرأ وقرع باب منزل كبير ففتحت له سيدة ونظرت إليه فوجدت طفلاً لم يتجاوز طوله سلم الباب.. ماذا تريد؟ ألقى بنظره على الأرض ولم يستطع رفعه.. ثم أقفلت الباب وهم بالانصراف وما هي إلا لحظات حتى عادت حاملة بيدها كيساً كبيراً وناولته إياه دون أن تتحدث معه.. أخذ منها الكيس وركض خوفاً من أن تتراجع السيدة وتأخذه منه حتى وصل إلى أحد الأزقة وفتح ذلك الكيس فوجد به طعاماً كثيراً ولذيذاً وبعض الملابس وحذاء..لم يتردد في تناول الطعام لشدة جوعه وكان الطعام لا يقاوم مع معدة خاوية.. أكل الطفل حتى شبع.. ورمى بجسده النحيل على الأرض وغط في نوم عميق حتى توسطت الشمس في السماء وأرسلت أشعتها تداعبه بلطف حتى شعر جسده بحرارتها ففتح عينيه ونظر من حوله وما هي إلا برهة حتى تذكر كل شيء, فتح الكيس وأخذ الملابس والحذاء وركض لأقرب مرش للمياه في إحدى الحدائق على قارعة الطريق خلع ملابسه وبدأ بالاستحمام وارتدى الملابس والحذاء فرحاً بتلك الأشياء.. أخيراً صار له حذاء يقيه من حرارة الشمس ومن صقيع البرد, وملابس تغطي جسده الذي كان شبه عار.. ركض في كل الأزقة والشوارع لينظر الأطفال إلى ملابسه التي ليست جديدة ولكنها نظيفة.. أين نحن من هؤلاء الأطفال الذين يسرحون في الشوارع من غير أن يجدوا الرحمة!!.. ولماذا حكم على طفولتهم بالهموم والأحزان المبكرة من دون أن ننظر إلى طفولتهم المسلوبة وحرمانهم من أبسط حقوقهم كأطفال اليوم وشباب الغد..
|
ثقافة
عيون تبحث عن الأمان
أخبار متعلقة