أنطون تشيخوف
بقلم/ جورجي بيردينكوف:ترجمة/ بلقيس الربيعي:لم يكن تشيخوف يتمتع بشهرة عالمية خلال فترة حياته ، على نقيض معاصريه من كتاب روسيا العظماء أمثال تولستوي ودوستوفسكي والذين كانت شهرتهم تطبق الآفاق وهم أحياء .لكن العالم اخذ يتعرف على تشيخوف بعد وفاته ،وازدادت شهرته بعد ذلك الحين بسرعة مذهلة ليصبح وفي كل أنحاء العالم على قدم المساواة مع كاتب " آنا كارينينا " و"الأخوة كرامازوف " إن هذا الانتشار السريع والواسع لسمعة تشيخوف جاء تأكيدا لملاحظة تولستوي عنه حين قال " إنه فنان الحياة ..وإن أدب تشيخوف سهل المنال ومفهوم ، ليس لكل روسي فحسب بل ولكل إنسان أينما يكون " وأكد ذلك الممثل البريطاني المعروف بول سكوفيلد قائلا " بالرغم من أن تشيخوف واحدا من أكثر الكتاب وطنية ،وان ابطاله روس حتى النخاع، لكن مشكلاتهم ، أفراحهم وأحزانهم ،حياتهم العائلية ومحنهم تشابه إلى حد كبير ما تعانيه الشعوب الأخرى " كما أشار العديد من النقاد بأن تشيخوف قدم للعالم صورة حقيقية عن روسيا والشعب الروسي .ففي عام 1958 كتب كلودروي قائلا : "إن تشيخوف ، مثل تولستوي ،بفضله عرف الناس في كل مكان روسيا وأحبوا شعبها ". في الحقيقة ، كان تشيخوف كاتبا روسيا بكل معنى الكلمة ،لكنه لم يحب الشعب الروسي والطبيعة الروسية الجميلة،ولم ينشغل بمشكلات الحياة الروسية فحسب ،بل كان قادرا على التعبير عن أكثر العناصر أهمية في تفكير التجمعات الروسية التقدمية في زمانه ،والتي كانت تهتم بعمق بالمسائل الأساسية للوجود الاجتماعي ، المسائل التي تهم جميع الناس بصرف النظر عن جنسهم وقوميتهم .وعند الحديث عن الأهمية العالمية لأدب تشيخوف ، يوجه النقاد الانتباه إلى الشكل الفني الجديد الذي اكتشفه تشيخوف وقد لاحظ تولستوي ذلك في أعمال تشيخوف وعلى أساسه اعتبره فنان الحياة .إن الخاصية الرئيسية في ادب تشيخوف هي الحقيقة العميقة حول الحياة التي لم تكن معروفة كفاية قبل تشيخوف كما أشار إلى ذلك غوركي بأن تشيخوف " أدرك مفهومه عن الحياة ، وبذلك أصبح قادرا على الارتقاء فوقها "إن الشخصية المحورية في معظم قصص تشيخوف الهزلية هي ( الرجل الضئيل )، وهي شخصية معروفة في الأدب الروسي ، وتعني ضحية الظلم والحكم الاستبدادي .وتظهر قصص تشيخوف بأن مقترفي الظلم والأعمال الشريرة هم غالبا من الموظفين ، وإن الحياة بما فيها من مواقف ومشاعر ،أصبحت مشروطة بالمال وبالتمايز الطبقي الحاد .واعتقد نقاد الأدب في ذلك الوقت بأن هذه القصص قد سجلت خرقا للتقاليد الديمقراطية في الأدب الروسي ، لكنها دفعت به خطوة كبيرة للأمام في تصويرها الفني لجوهر النظام المتسلط وعدائه للإنسان ، وأظهرت بروح نقدية عظيمة الترابط الوثيق بين الخنوع والطغيان .وكانت في الحقيقة دفاعا جديدا عن الإنسان ، ليس فقط عن حقوقه بل وعن الطبيعة البشرية نفسها . كما أشار بعض النقاد بأن النبرة الحقيقية لقصص تشيخوف ، هي كشف للتقاليد الديمقراطية للأدب الروسي . ففي وصفه للمشاهد الدرامية ، لاتوجد هناك سخرية حادة ولا أي شكل من أشكال التعليقات أو المواعظ من جانب المؤلف ...فقد كان تشيخوف مجرد ساخر . فالسخرية التي تتميز بها كتابات تشيخوف تعود إلى الروح الديمقراطية والتفاؤل العفويين اللذين يميزانه واللذين أديا به إلى أن ينظر إلى الأخلاق والسلوك السائدة في عصره ، بأنها شئ بغيض وغير طبيعي ،فاندفع للسخرية منهما . لقد أظهرت أعمال تشيخوف المبكرة نبرة أخرى ، كانت تنطوي على قصص حزينة تدور أحداثها حول السأم والفراغ في الحياة البشرية وتؤكد الجوهر الإنساني في أعماله بشكل عام ..بينما في قصص أخرى يظهر تشيخوف الطبيعة المضحكة للمعاناة الخيالية ، وفي البعض الآخر يظهر تعاطفه وحبه لإبطاله أولئك الذين لم يفقدوا إنسانيتهم .إن تشيخوف لم يفلح في إنتاج مثل هذا النوع من الأدب الجاد إلا فيما بعد ، وذلك في أواسط عام 1880 ، حين نشر عددا من قصصه الغنائية والتي برّزت الأصالة في شكلها ومضمونها ، فقدمت شيئا جديدا في الأدب الروسي والعالمي . ومهما يكن فإن تلك القصص ، كقصته الأولى تدور أحداثها حول أشخاص عاديين في الظاهر ، إلا أنهم في الواقع يختلفون بشكل واضح عن إبطاله في قصصه الهزلية . ففي تلك القصص نعيش في عالم ساخر ، غريب الأطوار ، مأهول بمخلوقات عديمة الحياة ،وفي قصصه الأخيرة يجعلنا تشيخوف نشعر بمشاعر خفية وعاطفة عميقة حتى اتجاه الشخصيات الجاهلة والغير ناضجة .فبدلا من التقسيم العمومي للعلاقات الاجتماعية السائدة ، يقوم تشيخوف بتحليل عميق لمختلف جوانب الواقع الاجتماعي ... فيكشف عن الميكانيكية التاريخية في العمل واستعباد الناس في الريف والمدينة في روسيا القيصرية .. فيظهر إبطال جدد ينهمكون في مناقشات حادة حول قضايا فلسفية واجتماعية وسياسية ..لكن في قصصه الأخيرة ظلت دراما الوجود الإنساني تشكل الفكرة الرئيسية . وفي كل قصص تشيخوف ينتاب القارئ إحساسا ليس فقط بالحياة كما هي بل بالحياة كما يجب أن تكون ..وبمرور الزمن تتجسد في أعمال تشيخوف فكرة المستقبل السعيد وتصبح الحياة الجديدة أكثر وضوحا ، ليس كحلم بعيد ، بل كواقع تاريخي .ويرتبط تطور أعمال تشيخوف بشكل لاينفصل بتحليله الخارق لموضوعته الرئيسية ـ الصراع بين الإنسان و النظام البرجوازي الإقطاعي .ويفتح الوضع الديمقراطي العام أمام تشيخوف بعدا آخر يساعده على كشف الأهمية العامة للصراع بين الإنسان والنظام البرجوازي ...فيبين للقارئ بأن هذا النظام ضارا ليس فقط للأغلبية المستغلة ( بالفتح ) بل ولأفراد الطبقات الحاكمة وللمفكرين الذين يخضعون للأفكار البرجوازية حول السعادة أو الذين يذعنون لطريقة الحياة المعتادة . وفي كل أعمال تشيخوف الناضجة، يظهر الصراع الذي يخوضه المفكر كمواقف أخلاقية مع العادات السائدة ، وهذا الصراع يقود إما الى ولادة الوعي الذاتي لدى المفكر وبالتالي رفضه للنظام ، أو إلى فقدانه لمشاعره الإنسانية وعواطفه وقبوله بالأمور التافهة التي تحيط به . ومن خلال تصويره لهذا الصراع بين المفكر والنظام الاجتماعي غير العادل ،يبين تشيخوف بأن مقاومة ذلك النظام هو الطريق الوحيد لحفاظ الفرد على إنسانيته .إن التناقضات الحادة في النظام البرجوازي الإقطاعي في روسيا ، كما يؤكدها تشيخوف ـ حرمت الناس الجيدين والمفكرين الشرفاء من إمكانية العيش بسعادة .وعلى الأرجح لم يكن هناك كاتبا قبل تشيخوف استطاع أن يكشف هذا التناقض في قصصه أو مسرحياته ، لكن تشيخوف قطع شوطا بعيدا حين أشار الى كيفية تشكيل المفهوم الجديد للسعادة (السعادة إدراك المرء لكرامته ،وبحثه عن حياة جديدة وعمله من اجل انتصارهذه الحياة . ) وهكذا فمفهوم تشيخوف حول السعادة البشرية يتضمن فحوى جديدة .إن الذي أضفى الطابع الجدي على أعمال تشيخوف هو إنسانيته ،ليس في المضمون فحسب ، بل وبالشكل أيضا . ومهما كانت المسائل التي تناولها تشيخوف معقدة ،فهي في التحليل النهائي تقدم مسائل محددة عن العدالة والظلم ، خاصة بالنسبة للبطل نفسه ... ومثال على ذلك المناقشة الفلسفية التي تدور بين كروموف و راجن في قصته ( العنبر رقم 6 ) إن أفكار راجن والتي هي حصيلة نقاشات فلسفية يعرفها القارئ وتستثير مشاعره كلية ويتجاوب بعقله وقلبه مع النهايات المأساوية التي تشكل المصير النهائي للشخصية المحورية وللقصة بشكل عام . وهنا يثير تشيخوف مشكلة يجسدها في جملة من الصور الفنية ، حيث يقوم بترجمة تلك النقاشات الفلسفية إلى لغة المبادئ الأخلاقية بطريقة خاصة في بناء قصته التي تنتهي بالحبس غير المتوقع لراجن في ( العنبر رقم 6 )وفي قصصه الأخرى ،تتحقق النتائج نفسها بتوافق مع الأشكال القصصية . فمشاهد سقوط الثلج في قصة ( الهجوم )مثال من هذا النوع حيث يتمكن تشيخوف من تحقيقها عندما يقدم صورة ذاتية للحقائق الداخلية التي تعتمل في نفسية البطل . إن هذه المشاهد ، التي تعكس التغييرات ليس في المزاج فحسب بل وفي حكم الطالب فاسيليف ، ولربما في أكثر من اي عنصر فني آخر في القصة ،تقود القارئ الى النهايات التي رسمها البطل .إن إظهار الحقيقة الموضوعية من خلال الإدراكات الحسية لها ( من قبل شخصيات القصة ) ساعدت تشيخوف في وضع المبدأ الأساسي لمواهبه الشعرية موضع التطبيق ، مبدأ الموضوعية الذي يتطلب ترجمة حقيقية للواقع الاجتماعي . [c1](يتبع) [/c]