الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ..
ولد خورخي لويس بورخيس في العاصمة الارجنتينية بوينس ايرس في الرابع والعشرين من اغسطس العام 1899 في العام نفسه الذي شهد ولادة عظيم آخر في عالم الادب هو (فلاديمير نابوكوف) بعيد ولادته انتقلت عائلة بورخيس الى كل سيرانو في باليرمو وهي احدى الضواحي الشمالية المتاخمة للعاصمة وعلى الرغم من الاجواء الايطالية السائدة في تلك المدينة فهي لم تحمل اسمها تيمناً بالمدينة الصقلية بل سميت على اسم القديس (بينيتو دي باليرمو) في بداية القرن الماضي منطقة شعبية الطابع ملؤها الاماكن المشبوهة مثل الحانات وبيوت الدعارة حيث النساء والرجال يرقصون التانغو ويتبادلون حكايات الثأر بشغف على عكس حالها اليوم اذ تحولت الى مدينة راقية بمستوى معيشي مرتفع ولقد استوعب بورخيس تلك الاجواء منذ الصغر الامر الذي انعكس على اعماله الادبية الاولى.وعلى الرغم من تشرب بورخيس الصغير اجواء المنطقة التي كان يعيش فيها إلا أن الأسرة استمرت مع ذلك بالشعور بعدم الانتماء الى ذلك المكان ولاسيما الوالد( خورخي غييرمو بورخيس) الذي كان محامياً ومدرساً لعلم النفس كما كان مثقفاً يؤمن بنظرية الفوضوية الوجودية والوالدة ( ليونور اسيفيدو دي بورخيس) التي كانت ذات كبرياء تنحدر من سلالة المناضلين الذين حاربوا من اجل الحرية وكانت والدة ليونور قد ملأت جدران المنزل بصور مناضلي الحرية هؤلاء وعشرات الأوسمة والسيوف والبدلات العسكرية.كان خورخي لويس بورخيس مولعاً بوالديه وقد تعلم من والده الفلسفة حيث كان هذا الأخير لايتوانى عن عدم استخدام الأساليب المبسطة لنقل أكثر المفاهيم الفلسفية تعقيدا لابنه مثلما استعمل ذات يوم لوحة لعبة الشطرنج ليشرح لهورهي الصغير عقدة كما أحب خورخي والدته التي عاشت 99 عاماً والتي كانت امرأة قوية الشكيمة لم تتردد في مرحلة لاحقة من حياتها في السفر حول العالم من اجل رؤية ابنها.كان كلا الوالدين يتقنان الانجليزية كتابة ومحادثة نظراً لصلة القرابة التي تملكها الأسرة بالبريطانيين منذ تزوج الجد للوالد الكولونيل فرانشيسكو بورخيس بسيدة بريطانية من ستافورد شاير تدعى فرانسيس هاسلام وعلى الرغم من مقتل الكولونيل بورخيس في العام 1874 إجراء أطلاق النار عليه بقيت الجدة (فاني) لتخبر الطفل خورخي لويس او (جورجي) كما كانت تحب ان تدعوه الكثير من الحكايات عن تلك الايام المتأججة ولطالما ردد بورخيس في مابعد ان اسلوب جدته الانجليزية الساخر كان الاساس في إكسابه الاسلوب المباشر في كتاباته كانت الجدة كذلك تقرأ على حفيدها المجلات الانجليزية بالإضافة الى التواصل الدائم باللغة الانجليزية مع السيدة ( تينك) المربية البريطانية التي كانت تتولى رعايته وشقيقته (نورا) وقد ذكر بورخيس في مابعد ان منزل الاسرة كان ازدواجي اللغة لدرجة انه كان يخال الانجليزية والاسبانية لغة واحدة اثناء طفولته.تلك الطفولة لم تكن مليئة بالصداقات حيث كانت شقيقة بورخيس التي تصغره بسنتين (نورا) الصديق الاوحد له وكانا يبتكران معاً الألعاب وأصدقاء لعب وهميين يلهون معهم مثل الشخصيتين الوهميتين (كويلوز) وطاحونة (الهواء) كانا كذلك يستمعان بتمثيل مشاهد من بعض الكتب المفضلة لديهما ويمضيان الوقت في التنقل مابين ارجاء المكتبة والحديقة وهما المكانان اللذان تركا الكثير من الاثر في كتابات بورخيس اللاحقة.بينما كانت اجازة الصيف تحمل معنى مختلفاً من اللهو اذ كانت الاسرة تقضيها في ضاحية ( ادروغيه) ذات الطابع الاوروبي الانيق وبالتالي فقد كان يتسنى للطفلين ان يزورا حديقة الحيوان القريبة ولاسيما النمر الذي كان المفضل لدى بورخيس بخطوطه البرتقالية والسوداء وقد بقيت تلك الصورة في مخيلته حين فقد بصره في سن لاحقة وقال ان لوناً واحداً بقى ماثلاً امامه وهو ذلك اللون البرتقالي.الا أن المغامرات كانت تتوقف عند ذلك الحدود حيث ان بورخيس استمر في الشعور بأنه غريب في منطقة لاتمت اليه بصلة وكان يخفي ذلك الواقع خلف الكتب الكثيرة التي أدمن قراءتها منذ الصغر رغم قصر نظره الحاد الذي اتضح انه ورثه عن والده الذي سرعان ما فقد البصر حين كان لايزال شاباً ولانه كان من المتوقع ان يصبح كاتباً مثل والده فقد قام في التاسعة من عمره بترجمة رواية اوسكار وايلد ( الامير السعيد) وظهر النص كاملاً في صحيفة محلية تدعى (ال باييس) الا ان احداً لم يعرف ان المترجم هو الطفل لانها حملت اسم خورخي بورخيس وهو اسم الوالد ايضاً .في عام 1908 اخذ بورخيس يرتاد المدرسة التي لم يكن الوالد يحبذ ارساله اليها ولكنها لم تعلمه أكثر من المشاعر الوطنية الأرجنتينية وتاريخ البلاد كما صدمه الفارق الثقافي الكبير الذي يفصله عن التلامذة الآخرين ومن ناحية أخرى لم تكن عدائية التلامذة مناسبة لطباع بورخيس الذي لم يكن قادراً تماماً على الدفاع عن نفسه رغم إصراره على الاستمرار إلى النهاية حين يتورط في قتال مابسبب كبريائه العظيم وقد أورثه ذلك كرهاً للمدرسة وتالفاً مع الهزيمة أكثر من النصر.كابوس المدرسة ذلك أتى إلى نهايته في العام 1914 حين (طرأ تغيير جذري على حياة بورخيس حين قام الوالد بالتقاعد مبكراً بعدما فقد بصره وانتقل بعائلته إلى القارة الأوروبية وقد امضوا أسابيع معدودة في باريس قبل الاستقرار في جنيف حيث ذهب الوالد لاستشارة أخصائي في النظر اما الطفلان خورخي ونورا فقد ارتادا مدرسة سويسرية حيث تعلما الألمانية واللاتينية والفرنسية وهنا تمكن بورخيس من عقد المزيد من الصداقات مع زملائه على الرغم من ضعفه في اللغة الفرنسية كما تعرف من خلال أصدقاء بولنديين الى الأدب الرمزي الاول مرة في حياته وأخذ بالتالي يستمتع بقراءة اعمال الشعراء الرمزيين مثل رامبو وفيرلان ومالا رميه إضافة إلى التيارات الفلسفية المتنوعة وعلى رأسها والت ويتمان المفضل لديه.وفي العام 1919 توفيت جدة بورخيس لأمه وكانت تقيم معهم حتى ذلك الحين فانتقلت الأسرة الى لوغانو وكانت تلك المرحلة حاسمة بالنسبة الى بروخيس الذي كان قد تخرج في كلية الفن واخذ يفكر في التركيز على مهنة الكتابة وبعد عدة محاولات فاشلة بالفرنسية والانجليزية قرر خورخي لويس بورخيس ان اللغة الاسبانية هي الأصلح له واعتمدها في كتاباته ومؤلفاته وحين سافرت الاسرة لقضاء عام واحد في اسبانيا شهد بورخيس نشر قصيدته الاولى التي لم تكن كافيه مع ذلك لإدخاله في الحلقات الادبية الى ان عثر اخيراً على من يساعده على مسعاه بشخص الشاعر الاندلسي رافاييل كانسينوس اسينس الذي تلقاه في العام 1920 وقد عرفه الشاعر الى مجموعة ادبية تطلق على نفسها اسم ( المتطرفين).كان اعضاء المجموعة يلتقون كل ليلة سبت في المقهى (كولونيال) فيتبادلون الآراء ويخوضون النقاشات الادبية الحادة التي الهبت مخيلة خورخي لويس الشاب واقنعته بأن اسلوبه لايمكن ان تحده جنسية معينة او ارث تاريخي اوحد وقد ألف بورخيس كتابين حول التفكير الشمولي الحر لكنه سرعان ما أتلفهما وغادر اسبانيا في العالم التالي.وفي العام 1921 عادت اسرة بورخيس التي كانت قد شهدت الكثير من التغييرات في سنوات غيابهم السبع ومالبث خورخي ان تأثر باحد اصدقاء والده الشاعر ماسيدونيو فيرنانديز والذي كان من التيار المحافظ وابتاع الفكر الذي ينتمي اليه شوبنهاور وبيركلي وهيوم ولعل أكبر التأثيرات التي تركها فيرنا نديز في بورخيس ان يقرأ كل شيء بروح ساخرة ونظرة مختلفة عن المعتاد.وظهر التأثر واضحاً من خلال المجلة الادبية التي قام بورخيس بتأسيسها مع عدد من الاصدقاء واطلق عليها اسم (بريسما) وهي بشكل ملصق عريض يتم لصقه على جدران الشوارع ليقرأه الجميع.ومع حلول العام 1923 شعر بورخيس بانه مستعد لاصدار مجموعته الشعرية الاولى وقد حملت اسم ( شغف بوينس آيرس)ومول الوالد طباعة الديوان الذي أتى في 64 صفحة وتم توزيع نسخة مجاناً وكانت نتيجة ذلك العمل ان اكتسب خورخي بعضاً من الشهرة في بلاده ولكن شهرته تلك اتت بسمعة تصمه بالتحفظ والانتماء الى الاجواء الادبية الراقية بعيداً عن الادب الشعبي الذي كان يهواه وبالتالي فقد قرر بورخيس النزول الى الاحياء الخطرة من المدينة حيث تعلم رقص التانغو واختلط بطبقات مختلفة من البشر وصولاً الى الخطرين في المجتمع وذلك بهدف إثراء مخيلته.استمر تألق بورخيس في الستينات حيث تمت ترجمة بعض من اعماله الى الفرنسية والانجليزية وقد تشارك في العام 1961 جائزة الناشرين العالميين مناصفة مع صامويل بيكت وقد تلقى الدعوات الكثيرة من قبل جهات عدة في الولايات المتحدة واوروبا وكان دائم السفر كما قام في تلك الفترة بالزواج من السا استيته ميلان بعد وفاة زوجها الاسبق ولكن زواجه هذا مالبث ان مني بالفشل بسبب عدم التكافؤ بين الزوجين وانتهى بالطلاق الذي وقع في العام 1970.في السبعينات عاد بورخيس لتأليف القصص البوليسية الى جانب عدد من القصص مثل (تقرير الدكتور يرودي) وقد التقى في تلك الاثناء (ماريا كوداما) التي كانت طالبة في احد صفوفه والتي كانت تنحدر من اصول يابانية واستمرت العلاقة بينهما قوية حتى انه تزوجها في السنة الأخيرة من حياته وفي الرابع عشر من يونيو 1986 توفى خورخي لويس بورخيس بسبب إصابته بسرطان الكبد عن عمر 86 عاماً ومن دون ان يفوز بجائزة نوبل ولو مرة واحدة على الرغم من شهرته العالمية التي كانت ولاتزال تحيط باسمه وبمؤلفاته الخالدة.