الخبر بين الشك واليقين
عبدالله علوان "في الدهر العظات والعبر" إحدى قصائد الشاعر عبدالرحمن الآنسي" في ديوانه " ترجيع الأطيار" . والقصيدة هي بالأصل مرثية لابني عمه حسن وقاسم ابني عمه حسين الآنسي، اللذين ماتا فجأة في مدينة حيس وهو بعيد عنهما، ففاجأه الخبر ونزل عليه الصاعقة، وعند الخبر يقف الشاعر بين مصدق للخبر ومكذب له ، فما كان يتوقع موتهما بهذه الصورة الفجائية . وهذه حالة مأخوذة شعرياً من حال أبي الطيب وتحيره في الخبر تحيراَ يضعه أولاً في حالة اصطراع واضطراب ، بصورة تفقده القدرة على التماسك فيقول: [c1] لايملك الطرب المحزون منطقة ودمعة وهما في قبضة الطرب[/c] فخبر الموت ليس محزناً وحسب، بل ومخيفاً، خيفة جعلت الشاعر يفقد ليس جهازه العصبي وحسب، بل ويفقد عقله والمنطق كناية عن ذلك، ومن هذا الاضطراب نشأ تكذيب الخبر كما في قوله : [c1] طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بآمالي إلى الكذب حتى إذا لم يدع لي صدق املا شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي [/c] وتكذيب الخبر هنا، هو تكذيب للحق وإنكار لحقيقة بديهية عاش الشاعر غافلاً عنها حتى داهمته، فاستيقظ الغافل عنها " إنا لنغفل والأيام في طلب" على حالة المتنبي هذه وفي حالة مشهورة ومتكررة، انبنت قصيدة عبدالرحمن الآنسي " في الدهر العظات والعبر" ولكن بأسلوب آخر يختلف من حيث الوزن والقافية ، زمن حيث اللغة ، ومن حيث المعالجة، ويجب القول أولاً أن اسلوب المعالجة هو الذي يحدد جمال الشعر والابداع الشعري، وليس المعنى الشعري فالمعاني في الطريق كما يقول الجاحظ وإنما الشأن في الصبغ والتصوير وإقامة الوزن وسهولة اللفظ والمآتي "راجع في كتاب الحيوان للجاحظ". وسنبدأ بلغة القصيدة وفكرتها الشعورية ، ثم سنقف عند اللغة ثم سنقف عند الوزن الشعري وقافيته، ومن خلال هذا وذاك سندرك اسلوب الشاعر. يعالج الشاعر حادثة الموت، لا من خلال اثرها النفسي، على الشاعر وما إذا كان الخبر صادقاً أو كاذباً فهذه الحالة نجدها عند المتنبي وعند كثير من الشعراء ، غيرهما ،ـ وإنما يعالجها من خلال جملة من المفاهيم التاريخية والمنطقية ، ومفاهيم الامل والغرور، ثم من خلال غفلة الإنسان عن واقعه ومصيره ، ثم من خلال مفهوم القضاء والقدر، ومن خلال مفهوم الاثبات والإنكار ومن خلال الشك واليقين، ومن خلال التصديق والتكذيب، وما إلى ذلك من عوامل وظروف مادية ونفسية تحيط بالانسان، وتضعه بين السعادة والشقاء أو بين النعيم والجحيم ، أو ظروف نكون في جملتها سبباً في تحديد مصير الانسان وان كان هذا السبب ثانوياً بالنسبة إلى السببية الأشعرية وهي قضاء الله وقدره فالسببية، أو مفهوم السبب شعور إنساني عريق في الذات الانسانية، لكن السبب عند الشاعر هو غير السبب، عند أبي حسن الاشعري وتعليلاته الكثيرة للوقائع الشديدة، وابرزها واقعة الموت المفاجئ، كما هو حال شاعرنا: [c1] في الدهر العظات والعبر كم تكرر في السمع الصحيح والبصر لو زال الامل والغرور ماتحير خابط في هواه استمر ماذا في الأمل من خطرفاحذر .. احذر قد يسلم كثير الحذر هل باك ام سرى ام نشر طارق الشر من حيس لا اهتدى لا استقر[/c] وعبارة هي في الدهر، هي عبارة مجازية، ويعني بها التاريخ، المسموع منه والمقروء، وفي هذا التاريخ تتكرر العبر والمواعظ ، فالتاريخ هو الحقل الواسع لاستنباط الحقائق التاريخية والاجتماعية، والذي يشير إليها بالمواعظ والعبر. أما كلمة الأمل، فهي كناية عن طموح الانسان إلى تحسين حياته المادية والروحية، حتى ولو كان هذا الطموح مشوباً بالغرور، فلو زال الأمل والغرور من الانسان، لزال تفكيره " ماتحير" وهنا نلاحظ الترابط السببي بين الأمل كنظرة عقلية، وبين الحيرة كظاهرة من ظواهر التفكير ..؟ وإذا كانت الحيرة علامة من علامة التفكير، فإن الأمل لازمة عقلية، أما جملة " خابط هواة استمر" فهي جملة خبرية يصف بها حياة الإنسان المضطربة والمصطرعة حول الآمال والاهداف المتصارعة. فالخابط، هو الانسان نفسه، كما ان الخابط من صفات الموت المفاجئ، والهوى، كناية عن الميول المتضاربة ، لكن رغم تاريخ الانسان المصطرع، يبقى الامل شرطاًً للحياة "ماذا في الأمل من خطر ..؟" وهذه الجملة الاستفهامية، تؤكد ضرورة الأمل، والتخطيط للحياة بموجبه ، فليس الخطر في الامال الإنسانية، وانما الخطر في الغفلة عن القدر، ولهذا يطلب الشاعر من القارئ الحذر، ويؤكد على ذلك بعبارة " فاحذر احذر" " قد يسلم كثير الحذر" مع ان الحذر لايمنع قدراً كما يقول الشاعر في اكثر من قصيدة . ويلاحظ ان الشاعر شديد الايمان بالقدر، لكنه بالمقابل شديد الحذر منه لان الحذر قد يجنب الانسان شرور الحياة ومصائبها ، لكنه لن يجنبه منها إذا كانت مقدرة عليه ، وهذا ما يفسر اداة الاحتمال "قد" في قوله " قد يسلم كثير الحذر ..؟" ليس مع القدر حذر، لكن الحذر من القدر واجب وخاصة في الامور المصيرية، الموت هنا هو ذلك القدر الذي على الإنسان ان يحتاط له . ثم تأتي الاسطر الثلاثة الاخيرة من المبيتة لتستفهم عن "طارق الشر" وجملة طارق الشر كناية عن الرسول الذي حمل له الخبر من حيس عن موت ابني عمه "محسن وقاسم" أو كما يصفهما بالشقيقين مرة ، وبالاثنين مرة اخرى. و "باك" كلمة عامية، وتعني بالتهامية، رجع من حيث اتى، أو مضى في سبيله، والمبيتة كلها ترجيع أو رجع داخلي للخبر ، الذي يقوله التوشيح :[c1] وافانا فقال ربكم استأثر باحبابكم بالله الحلف حسبكم[/c] في هذا التوشيح، يكمن الباعث الشعري، وهو الخبر الذي قاله طارق الشر أو الرسول الذي جاء بالخبر وضاع ضيعة مقراط عن الشاعر، ثم يأتي التقفيل ليستنكر الشاعر أسلوب التعبير في نقل الخبر، وبأمره بصوت زاجر عن التحقق من الخبر قبل اشاعته:[c1] عد فيما تقول النظر ليش تجهر في فيك التراب والحجر يا طير يا طويل السفر يا نسيم مر يا برق الغوير الاغر[/c] ثم يستنجد الشاعر بالطير وبالنسيم وبالبرق لاستبيان الحقيقة ، فقد يكون الخبر كاذباً ، او خاطئا كما تقوله المبيتة التالية :[c1] هل بين الديور والنخيل والعثاكيل والرمل الكئيب المهيل شاع القول هذا وقيل ام اباطيل ام غلطة رسول مستقيل ما أكثر ملاذ الذليل بالتعاليل في الممكن وفي المستحيل ماكان في الكتاب مستطر لايؤخر من وقته إذا ما حضر[/c] يتعلل الشاعر بأوهام ، كلها تقوم على تكذيب الخبر الذي ربما قد يكون قولاً مغرضاً اشاعة الناس للرسول فجاء به دون تحقق من صحة الخبر، او قد يكون خبراً باطلاً يراد به النكاية، والاثارة، والقلق ، أو قد يكون الرسول مخطئاً " غلطة رسول مستقيل" والمستقيل هو الذي دخل في وقت القيلولة ومنها تلقى الخبر دون علم دراية، ولكن سرعان ما يتراجع الشاعر عن اوهامه وظنونه، ويرى ان الخبر كان صادقاً ، ولكنه يعلل نفسه، مثلما فعل المتنبي قبله عندما علم بوفاة "فعلة الحمدانية:[c1] طوى الجزيرة حتى جأني خبر فزعت فيه بامالي إلى الكذب[/c] يتوهم الشاعر ان الخبر كاذباً كان ، ثم يدحض وهمه وظنونه باليقين، فالموت حق ولاسبيل إلى انكاره لان الموت حقيقة غير مستحيلة، بل هي ممكنة ، أو قل ان الموت من الحقائق التي تدخل في قيد الامكان، ولاتدخل في قيد المحال ، وهذا اليقين لايرجع إلى الخبر نفسه ، بل يرجع إلى حقيقة القدر المعروفة ، والمنصوص عليها في كتاب الله ثم يأتي التوشيح ليعلن الشاعر توبته عن انكاره الحق ولما فرط في ظنونه المنافية لكتاب الله .[c1] سبح ذا البقاء والخلود أنا صاحبك لايعود قد زار القبور واللحود[/c] اذن الخبر الذي أتي به الرسول خبر صادق ويقين، وليس فيه أي شك أو ظن ثم يأتي التقفيل ليؤكد الحقيقة القدرية :[c1] فاعجب للخطى والحفر والمقدر ما للعبد منه مفر واتي باكيات السحر حين تنعر بالنوح الشجي في السحر[/c] وفعل الأمر في قوله فأعجب، لايطلب التعجب ، وإنما يطلب التأمل والتفكير من القارئ لمساعي الانسان ومصيره، والخطى جمع خطوة وهي كناية عن مساعي الانسان التي قد تكون سبباً في مصيره ، والحفر هي هذه العوارض القدرية ، والتي يسعى إليها الانسان تحت دوافع الامل ، أما المقدر فهو الحادث اياً كان نوعه والذي يداهم الانسان ، او يسعى إليه الانسان برجليه ، فما للانسان من المقدر مفر ، حتى ولو تعلل، بالأماني والأوهام ، وتعلق بالحيل والخطط الواهية. وباكيات السحر كناية عن اصوات الطيور النائحة ، ثم ينتقل بعد هذا إلى المبيتة الاخيرة :[c1] وابك مابدا لك لحين الشقيقين في حيس خلف ارض العدين ناداهم مؤجل بدين اين إلى اين والموت في الذمم أي دين قلب كيف شئت اليدين بعد الاثنين كالطالب اثر بعد عين يبقى الله ويفنى البشر كل أكبر في أمره صغير محتقر[/c] البكاء على موت الاخوين في حيس لايقدم في الامر ولايؤخر، فقد دعاهم القدر إلى اجلهم المحتوم، فقد كان الموت ديناً مؤجلاً عليهما ودين الموت لامفر منه، ومهما فكر الانسان واعمل الفكر في أمور الدنيا فلا جدوى وهذا من قول المتنبي .[c1] ومن تفكر في الدنيا ومهجته اقامة الفكر بين العجز والتعب[/c] فالقدر هو الحقيقة الذي لايقدر الانسان على الفكاك منها ، سواء اتاه على غفلة من الزمن، او سعى اليه الانسان تحت ذرائع التجارة والكسب ، او طلب العيش أو ما من مساعي يكون فيها حتف الانسان ، ان لم يكن حتفه في الموت الطبيعي، فليس هناك مقصوف عمر، وانما هناك قضاء وقدر. وفي التوشيحه الاخيرة، يتعهد الشاعر على اقامة ذكرى للميتين في حياته ، فهو لن ينساهما مادام على قيد الحياة.[c1] لا انسى العلم والحسام ما استاني بيومي الحمام حتى استتم التمام[/c] والعلم والحسام لقبان للميتين "محسن وقاسم" فسيعيش الشاعر على ذكرهما ماداما حيا ، ثم يدعو لهم بالسقيا وكما يقول التفعيل الاخير:[c1] استقى سحاب المطر كلما مطر في تلك القبور والحفر واستغفر لهم في السحر ربنا البر ان الله لمن شاغفر[/c] فالقصيدة تتكئ كثيراً على مرثية المتنبي لخولة الحمدانية ، لكنه يعالجها بطريقة يحشد لها افكاراً كثيرة ترتبط بحياة الانسان ، وظروفه ومصيره .