المناضل الشيخ عبد العزيز الحبيشي لـ 14اكتوبر:
حاوَرَهُ / فايز محيي الدين البخاري:مثلما كان لأبناء المحافظات الجنوبية شرف المبادرة في الانخراط بصفوف ثوّار ومقاتلي ثورة 26 سبتمبر الخالدة عام 1962م فقد كان لأبناء المحافظات الشمالية نفس الدور في تفجير ومواصلة ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة عام 1963م، سواءً في عدن أو في الضالع وردفان. وقد لعبتْ محافظة إب دوراً أساسياً في دعم ثورة 14 أكتوبر من خلال وجهائها وأبنائها ومن خلال قيادتها الحكومية والثورية التي كان يتزعمها الشهيد أحمد بن أحمد الكبسي الذي لُقِّبَ بـ(بطل الثورتين) كونه من الضباط الأحرار لثورة سبتمبر وأهم عنصر فيها قام بتقديم العون والمؤازرة لثورة أكتوبر. ولتسليط الضوء على مُجمَل الجهود التي قدّمتها محافظة إب لثوّار 14 أكتوبر في إطار واحدية الثورة والواجب الوطني المقدس لأبناء الوطن الواحد؛ كان لنا هذا الحوار مع الشيخ والمناضل المعروف عبد العزيز الحبيشي شيخ مشايخ إب وأهم شخصياتها الوطنية الباقية. فإلى الحوار: * في البدء نتمنى أن ترجعوا بذاكرتكم إلى ما قبل ثورة 14 أكتوبر 1963م لتعطونا لمحة عن الدور النضالي الذي اشترك فيه أبناء اليمن من الجنوب والشمال في تحقيق الاستقلال ليكون القارئ الكريم في الصورة عمّا كان عليه واقع الحال آنذاك في صفوف المناضلين؟** ربما أنت تقصد أن نتكلّم عن الدور البطولي المشهود الذي قام به أحرار الجنوب في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر الخالدة عام 1962م لتثبت للقارئ بحسِّك الصحفي واحدية الثورة اليمنية. وسأقول لك هذا شيء مُسلّم به وسوف نتطرّق إليه بالتفصيل. لكن قبل ذلك لابُد من العودة بك إلى الأربعينات من القرن العشرين الميلادي حين كانت مدينة عدن تُمثِّل الحضن الدافئ والصدر الرحب لكل المناضلين اليمنيين، وبالذات أبناء المحافظات الشمالية الذين يفرون من براثن الكهنوت والاستبداد الإمامي إمّا لإيجاد منطلق للثورة أو البحث عن سُبل تتكفّل بتهيئة الأجواء المناسبة لقيام ثورة تجتث نظام الإمامة وتلهب الحماس للانقضاض على قوات وجحافل الاستعمار البريطاني على السواء، فكلاهما عاهةٌ في جسد الوطن ولابد من اجتثاثها.ولا زلتُ أتذكّر كيف كانت تأتينا الصحف والكتب والمنشورات الثورية من مدينة عدن، وكذا الراديو الذي لم يكن يأتينا إلّا عن طريق عدن. فكانت عدن أيام العهد الإمامي بالنسبة لنا في إب وبقية المحافظات الشمالية هي الرئة الوحيدة التي نتنفس من خلالها ونشتم عبق الحرية والنضال. ومنها وحدها تَهِبُّ نسائمُ الحريّة ونغمات الحُلم بغدٍ مشرقٍ وزاهر. ففيها تأسّسَ حزب الأحرار اليمنيين بقيادة الزبيري والنعمان والموشكي والشامي عام 1944م، ومنها انطلقت الصحف التي تلهب مشاعر اليمنيين وتنفض عنهم غبار الخنوع والخضوع لأقسى حكم كهنوتي منعزِل عرفته البشرية. فقد كانت أعداد صحيفة (صوت اليمن) التي أسسها أبو الأحرار محمد محمود الزبيري تصل إلينا تباعاً من عدن إلى جانب أعداد من صحيفة (فتاة الجزيرة) وصحيفة (الفضول) لصاحبها المناضل والشاعر الشهير عبدالله عبدالوهاب نعمان. وكان لهذه الصحف وغيرها من المطبوعات الواصلة من عدن الأثر الكبير في تهييج وإلهاب حماس الجماهير ضد الحكم الإمامي. رصد دقيق* على هذا فقد انحصر دعم المناطق الجنوبية لمناضلي المحافظات الشمالية على مدينة عدن فقط؟** لا تستبق الأحداث. أنا مازلتُ أشرح لك عن دور عدن لكنّي لم أقل ولم أحصر دور أبناء الجنوب ومناطق الجنوب على مدينة عدن؛ لكن أستطيع القول أنّ دورها كان الأبرز باعتبارها منطقة مفتوحة لكل اليمنيين. ورغم ذلك فالمناطق الأخرى كان لها دور ملموس وبارز في مسيرة النضال الوطني بشقيه: الأكتوبري والسبتمبري. ونحن حين نتحدث عن نضال أبناء ومناطق الجنوب لا نستطيع أن نغفل ما قدّمَهُ أبناء الضالع وردفان من دعم فوري ومثالي في الدفاع عن ثورة سبتمبر، كما لن نستطيع أن ننسى مواقف شريف بيحان من ثوّار سبتمبر، والذي أكّد عليه أكثر من مناضل وكاتب ممن احتكوا به أمثال الشيخ المناضل الجسور سنان بن عبدالله أبو لحوم. وأيضاً سلطان لحج كان له دور مهم في دعم مناضلي الشمال وكان منزله مقصد الكثير منهم، سواء ممن يلقاهم في عدن أو من يمرون عليه في طريق هروبهم من الشمال إلى عدن أو العكس. ومن أهم من مكث لديه القاضي أحمد بن أحمد السياغي رحمه الله نائب الإمام في إب وتعز وأحد أبرز الشخصيات الوطنية على الإطلاق. والأمثلةُ في هذا المجالِ كثيرةٌ وتحتاجُ لرصدِها بدقةٍ جهوداً حكوميةً للتنقُّل في كل المناطق لتوثيق كل أدوار المناضلين اليمنيين بلا استثناء، لأنّ مَن قاتلوا ودافعوا عن الثورة ليسوا عشرات ولا مئات بل ألوف، ما يعني أنّ الغالبية العظمى منهم لم يتم التوثيق لهم ولا لأدوارهم البطولية حتى الآن. وما يؤسف له أنّه حتى الشهداء الذين وهبوا أرواحهم وسُفِكَتْ دماؤهم رخيصةً لأجل هذا الوطن لا يزال غالبيتهم دون توثيق وعائلاتهم دون رعاية أو حتى تكريم. وهي لفتة نوجهها للجهات المعنية ونحتسبُها عند الله.هزّني الشوقُ* كُنتَ أنت ممن لاذوا إلى مدينة عدن هرباً من النظام الإمامي المستبد، خاصة وقد سُجِنتَ في عهده مرّتين.. تحدّث لنا عن ذلك واذكرْ دورك في ثورة 14 أكتوبر؟** عدن يمكن أنّه زارها ولاذَ إليها غالبية المناضلين اليمنيين، وأنا هربتُ إليها بالتهريب عقب فشل انتفاضة الريف عام 1959م بقيادة حميد الأحمر وعبداللطيف راجح، لأنّهم كانوا قد أودعوني سجن الزاجر بتهمة تأييد تلك الانتفاضة/الثورة وتمكّنتُ من الفرار من السجن والهروب إلى عدن، حيث لم أعد أحتمل البقاء في السجن للمرّة الثانية خشيةً من أنْ أُلاقي ما ذقته في المرّة الأولى حين أودعوني مع بعض زملائي من شباب إب المناضلين في سجن القلعة بصنعاء عام 1958م. وفي عدن التقيتُ بالعديد من المناضلين لكني لم أحتمل البقاء فيها (وهزّني الشوق نحو الأوطان) فعدتُ بالخُفية إلى مدينة إب عقب إصابة الإمام بالطلقات النارية التي أطلقها عليه الشهداء الأحرار، العلفي والهندوانة واللقية، في مستشفى الحديدة عام 1961م.ورغم ذلك ظل التواصل بين الأحرار في عدن وبيننا في إب وبين من هم في صنعاء وتعز والحديدة مستمراً حتى عشية ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م وبعدها. أمّا بالنسبة لدوري في ثورة 14 أكتوبر فقد تمثل - كبقية أعيان ووجهاء محافظة إب المحاذية لأماكن اندلاع ثورة 14 أكتوبر في ردفان والضالع- في الدعم المادي بالمال والسلاح. كما شاركتُ في حملة شعبية من مقاتلي إب مع بعض المشايخ للالتحام بقيادة قعطبة من أجل دعم جهود ثوار الضالع وردفان؛ وتمكّنت القوات من عبور الحدود لولا التوجيهات التي أتت من القيادة بصنعاء عن أنّ بريطانيا تترصّد لنا في كل اتجاه وتحاول جاهدةً من خلال المرتزقة دعم القوات الملكية لإعادة الإمامة ونحن لا نريد استثارتها في الوقت الراهن مادمنا في حربٍ ضروس مع القوات الملكية التي تهدد العاصمة صنعاء نفسها. فآثرنا العودة وعدم الظهور في الواجهة؛ لكنّا بقينا على تواصل مع ثوار ردفان والضالع ونمدهم بكل ما يحتاجونه. وقد ظلت الوفود من قِبَلِهِم تتوالى على قيادة محافظة إب والدعمُ لهم مستمراً. وكان منزلي أنا شخصياً وِجهة للكثير منهم أمثال صالح مصلح وعلي عنتر وعلي شائع، ولم نبخل عليهم بشيء، حتى أنّ المناضل طيب الذكر الشهيد علي عنتر كان يقول إنّ محافظة إب بالنسبة لثوّار 14 أكتوبر هي بمقام إستراليا لبقية المناطق، فالدعم والمؤونة منها لم تكن تنقطع وبصورة أغنتهم عن بقية المناطق والاستيراد الخارجي.رَجُل المواقف* كيف تقيِّمون الدور البطولي والنادر الذي قام به الشهيد أحمد بن أحمد الكبسي تجاه ثوّار 14 أكتوبر؟** دور الشهيد أحمد بن أحمد الكبسي كبير وعظيم جداً، ولا يكاد بطل أو ثائر من ثوار ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة يتحدث عن مراحل النضال إلّا وأتى بالذكر الطيب على هذا البطل المثالي الذي أبلى بلاءً حسناً في ثورة 14 أكتوبر كما أبلى في ثورة 26 سبتمبر، وبذلك استحقَّ وعن جدارة لقب ((بطل الثورتين)) الذي أطلَقَهُ عليه المناضل ناجي علي الأشول عضو مجلس قيادة الثورة. ومنذ عرفتُه عقب قيام الثورة السبتمبرية وتولّيه قيادة محافظة إب وحتى آخر يوم في حياته حين فارقني بصنعاء بعد أن شاركتُه فتحَ نقيل يسلح حين تم قطعه للمرة الثانية عام 1964م، لم أرَ منه إلّا رَجُلَ المواقف الذي لا يُفَلُّ له حَدٌّ ولا يُشقُّ له غبار. لقد كان رغم مناصبه المتقدِّمة في الدولة وفي صفوف النضال ذا خُلُقٍ وتواضعٍ فريد. ويشعر مَن عرفَهُ أنّ البطولة والتضحية والإيثار وحب الوطن كانت أشياء تسري في عروقه. والخوف من الموت الشيء الذي لم يكن يحسب له حساباً، بدليل رفضه العودة إلى إب عبر الطائرة وإصراره على العودة عن طريق البر رغم المخاطر المحدقة به بسبب أنّه كان قائد الحملة التي فتحت نقيل يسلح، والمواطنون على امتداد تلك الطريق من صنعاء إلى يسلح يشعرون أنّه هو السبب في كسر شوكتهم وتكبيدهم الخسائر في الأرواح والممتلكات، فأضمروا له الشر وتربّصوا به الدوائر واغتالوه بطريقة جبانة أشعَلتْ قلوبنا حسرةً عليه وحقداً على قاتليه حتى تمكّنا من الثأر له خلال أيّامٍ، بل سويعاتٍ قلائل. ويكفي أن تعرف أنّ بريطانيا كانت تحس بمرارة بالغة من أدوار الشهيد أحمد الكبسي في دعم ثورة وثوّار 14 أكتوبر، وكان في مُقدِّمة مَن ترصُد تحرّكاتهم وما يقومون به تجاه الثوّارِ الأكتوبريين. ونظراً لهذه المكانة المرموقة والحسّاسة للشهيد الكبسي فقد وردَ ذِكْرُهُ أربع مرات في أحد التقارير السرية البريطانية التي رفعها مسئول العمليات البريطانية بالضالع المدعو (أنيكس) بتاريخ 28 ديسمبر عام 1963م عقب قيام ثورة أكتوبر بحوالي شهرين.جبهات مختلفة* برأيك هل كان الدعم المُقدَّم من محافظة إب وقيادتها ومن تعز وتُجّارِها يتوافق مع حجم ثورة الــ14 من أكتوبر المجيدة؟** حجم ثورة أكتوبر كبير جداً، لكن لا تنسى أنّ تلك الجهود وما كان يتم تقديمه من إب وما يتم على أرض محافظة تعز من تدريب للعناصر المقاتلة في صفوف ثورة 14 أكتوبر، كانت جهوداً جبّارة مقارنة بالأوضاع التي كُنّا نمرُّ بها والحالة المعيشية الصعبة للمواطن اليمني آنذاك. فقيادة الثورة في صنعاء - ونحن منهم أيضاً- مشغولة تماماً بمواجهة فلول الملكية والتصدي لهم في حروبٍ طاحنة شملت العديد من الجبهات في مأرب وخولان والحيمتين وبلاد الروس والمحابشة والقارة وحجة وصعدة والجوف. يعني أنّ جهدها موزع كل على كل المناطق،وقوتها لا تلبث أن تستقر في منطقة حتى تُزمِعَ الرحيلَ إلى منطقةٍ أخرى. حتى نحن المسئولين في مكاتبِ الحكومةِ كُنّا نوزِّعُ أوقاتنا وأدوارَنا بين المكاتبِ الحكوميةِ وجبهاتِ القتال. ومن النادرِ أنّكَ تجدُ مسئولاً كان يمكثُ في مكتبِهِ ولا يغادرُهُ لجبهاتِ القتالِ أو لحشدِ المتطوعين من القوات الشعبية.لهذا فقد كان الوضعُ صعباً على قيادة الثورة في صنعاء وهي لا تزال لتوِّها تستلم دولةً بلا أدنى مقوِّماتِ الدولة، بل كانت لمّا تزلْ بعدُ تتشكّلُ ملامحُ الدولة. والوضعُ المادي للدولة وصندوقُ مصروفاتِها شبهُ فارغٍ لولا المعوناتُ التي جادتْ بها بسخاءٍ وبِحِسٍّ قوميٍ نادرٍ مصرُ عبدالناصر. ما جعلَ الدعمَ المُقدّمَ مِن حكومةِ صنعاء محدوداً مقارنةً بما كنّا نريد ويريدهُ مقاتلو ثورة 14 أكتوبر. وهذا ما أقرّتْ به بريطانيا من خلال تقريرها السري المؤرخ بــ28ديسمبر 1963م والذي جاء فيه: (( يُعتَبر المال هو الشيء الوحيد الذي لا تستطيع اليمن تقديمُه بسهولةٍ بسبب شِحَّتِه وكذلك لِتدنّي قيمةِ العُملةِ الجديدة )).. ورغم ذلك حاولنا في محافظتي إب وتعز بحكم الجوار أن نقوم بتغطية وسد ذلك الفراغ والنقص في المجهود الحربي لدعم ثورة 14 أكتوبر بقدر المستطاع بل وفوق طاقتنا آحايين كثيرة. وفي الفترات التي أعقبتْ اندلاع ثورة أكتوبر كاد الدعمُ المركزي يختفي تحت ضغوطِ بريطانيا التي جيّشتِ المرتزقةَ لتدريبِ وتسليحِ فلولِ الملكيةِ مِن أجلِ إحكامِ القبضةِ على القواتِ الجمهورية ووأدِ الثورةِ السبتمبرية. الأمرُ الذي دَفَعَ الزعيمَ جمالَ عبد الناصر إلى توجيه قيادة القوات المصرية في اليمن إلى فتح معسكرات تدريب سرّيّة في تعز كان لها كبير الأثر في دعم ثوّار أكتوبر. وفي إب بقيَ الدعم مستمراً حتى بعد استشهاد قائد اللواء بطل الثورتين الشهيد أحمد بن أحمد الكبسي عام 1964م، حيث استلمَ قيادة لواء إب بعده المناضل حسين شرف الكبسي، الذي جاءَهُ وفدٌ مِن الضالع وردفان يعزونه باستشهاد أحمد الكبسي ويطلبون منه مواصلة الدعم الذي كان يقوم به الشهيد؛ فالتزمَ لهم على الفور بدافع من الحس الوطني المسئول تجاه قضية وطنية مهمة رغم عدم توجيه القيادة في صنعاء له بذلك ورغم عدم معرفته بذلك الاتفاق بين ثوّار أكتوبر والشهيد أحمد الكبسي.تقرير بريطاني* وهل كان لهذا الدعم صدى في المحافظات الجنوبية وتأثير في ترجيح كفة الثوار اليمنيين على القوات البريطانية؟** التأثير كان عظيماً؛ والصدى كان أوسع؛ والضربة أشد إيلاماً بحق القوات البريطانية التي كانت تعتز بها بريطانيا سيِّدة البحار والإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس. فقد باغتها الثوّار اليمنيون ببسالة وشجاعة نادرة اضطرّتها إلى التقهقر والتراجع تحت ضرباتهم الموجعة، بعد أنْ فقَدَتْ هيبتَها وجُرِحَ كبرياؤها. وقد أطلَقَتْ على أولئك المقاتلين الأفذاذ تسمية (الذئاب الحُمْر) نظراً لما تميّزوا به من عناصر المباغتة والمقاومة الشرسة والاستبسال في الدفاع عن أراضيهم وإصرارهم العنيد على ضرورة إجلاء قوات المُستعمِر الغاصِب من كل الأراضي اليمنية.وخير شاهدٍ على ذلك ما جاء في التقرير البريطاني السِّري آنف الذكر الذي يقول في إحدى فقراته: «سيف مقبل عبدالله القطيبي المُدعّم بالأسلحة والذخيرة مِن اليمن (يقصد شمال الوطن آنذاك) وعدد كبير من رجال قبيلة ردفان بما في ذلك عبدالحميد المحلي، يتحدّى الحكومة الاتحادية (التي شكّلتها بريطانيا من مشايخ وسلاطين المحميّات أو المناطق الجنوبية والشرقية) في منطقة جبال ردفان. تُقدَّر القوّة الحالية للقبائل الذين معه بــ200 رَجُل، لكن هذا يتفاوت من يوم لآخر. هناك حوالي 1000 رجل من القبائل المُسلّحين في المنطقة لكنّهم لم ينخرطوا معه بعد. تُعتَبر ظروف العديد منهم مواتية وتمكنهم من دعم سيف مقبل. أقلُّهم تسليحاً يمتلك البنادق والذخيرة. والكثير عندهم البنادق الآلية والقنابل. تشير التقارير إلى أنّ سيف مقبل قسّمَ قوّتَهُ إلى مجموعتين: قسم منهم يتولّى مناوشة الموظفين في الحكومة والقسم الآخر يقوم بإقلاق الأمن على طريق الضالع-عدن. إنّ هدف سيف مقبل غالباً هو أن يثبت لحكومة اليمن قدراته كقائد منشق في (الجنوب اليمني المحتل) وبذلك يحصل على دعم أكبر للقيام بحركات مناوئة انشقاقية. وبدون ذلك الدعم ستكون سيطرة مقبل محدودة على تلك القِلّة مِن الموالين له من القبائل. وفي حالة استطاعته تحقيق ذلك الهدف سيعود إلى اليمن حتى تهدأ الأمور ثم يعود مرة أخرى للقيام بعمل المزيد من الاضطرابات. ويبدو أنّهُ مدعوم من اليمن وتحديداً من قِبَلِ الكبسي العامل السابق لقعطبة».وفي فقرة أخرى بتاريخ 23- 25 ديسمبر 1963م ورد في التقرير ما يلي:«ينبغي أنْ تقوم الحكومة الفيدرالية (حكومة الاتحاد بعدن) بالانتقام من قعطبة بسبب الدعم الذي تقدمه اليمن عبرها للمنشقين من ردفان. كما أنّهُ ينبغي في الوقت ذاته الإعداد لضربة ضد المتمرِّدين (ثوّار أكتوبر) في لواء إب الذين تمكّنوا من تحقيق انتصار في الأيام الماضية. وعلى الرغم من ذلك فإنّ الوجود المصري ينذر بسوء». من خلال هذه الفقرات من التقرير يستطيع أي قارئ حصيف أن يُميِّز أثر ذلك الدعم على قوات بريطانيا العُظمى!!صمود أسطوري* برأيكَ لماذا لم تَقُمْ الوحدةُ الوطنيةُ عقِبَ انسحابِ بريطانيا من جنوب الوطن؟** هذا يعود بالدرجة الأساس لانشغال المركز ،المتمثِّل بالعاصمة صنعاء، بالحروب الطاحنة التي كانت تدور آنذاك بين القوات الجمهورية والقوات الملكية والتي أطبَقَتْ على صنعاء من كل الجهات فيما عُرِفَ بــ(حصار السبعين يوماً) الذي ابتُليَتْ فيه صنعاء بأشد وأقسى أيّام عرفتها، عانَى خلالَها السُّكَّانُ مشاقَّ وويلاتٍ كثيرة. ولولا الصمودُ الأسطوري للقواتِ الجمهوريةِ القابعةِ داخلَها وعلى بعضِ جنباتِها وإخلاصِ المناضلين الشرفاء والقادة الأوفياء - مقارنة بالدعم السخي للملكيين- لسقطتْ صنعاء ومعها الثورة والنظام الجمهوري إلى الأبد، ولما تنسّمَ أبناءُ اليمن بعد ذلك نسائمَ الحُريّة ولما ذاقوا خيرات العهد الجمهوري التي وصلت إلى كل قرية وبيت في عموم الوطن، فضلاً عن المشاريع العملاقة في أمانة العاصمة وعواصم المحافظات.لقد أثّرتْ تلك الظروف التي كانت تمر بها العاصمة صنعاء وأكثر مناطق المحافظات الشمالية التي تدور فيها رحى الحرب الضروس بين القوات الجمهورية والملكية سلباً على إعادة اللُّحمة الوطنية في بوتقةِ نظامٍ واحد، الأمر الذي سهّلَ لِعُشّاق السُّلطة وهيلمانِها الانشقاق بجنوب الوطن وإعلانِهِ دولةً مستقلةً عن الدولةِ الأم. وقد أدركَ رفاقُ الجبهة القومية في عدن بعد ذلك خطأهم الجسيم الذي ترتب على إعلان قيام دولة في جنوب الوطن، وحاولوا مع نظام صنعاء الدخول في حوار من أجل إعادة الوحدة الوطنية ولكن بشروطهم ووفق رؤيتهم هم، الأمر الذي رفضته القيادة في صنعاء وكان من ثماره تفجير أحداث الجبهة الوطنية المدعومة من نظام عدن في مختلف محافظة إب وعتمة ووصاب وريمة وشرعب وشمير، وهي التي عُرِفَتْ بــ(حروب المناطق الوسطى) والتي نال محافظة إب منها السّهم الأكبر. ولا تزال بعض المناطق حتى اليوم تعاني من بقايا الألغام التي زرعتها عناصر الجبهة القومية وتحصد الكثير من الأرواح.