الفنان والأديب عصام خـليدي..
* فهد البرشاء::لم تكن يوم الكلمات عصية عليّ .. ولم تخذلني المشاعر قط.. ولم تتبلد أحاسيسي مطلقاً.. ولم يتجمد حبر قلمي على صدر صفحاتي.. ولم تطو صفحاتي قبل أن أكمل ما يعتمل في صدري من مشاعر وأخط ما تحمله بين ثناياي من أحاسيس على صدر صفحاتها.. بل أني لا أجد صعوبة البتة في أن أعيش في عالم آخر وأنسج منه قصصاً وروايات وأنقل منه معاناة وأرسم على صدر الزمان آلام وأوجاع الغير, لمجرد أن أنخرط في هذا العالم وأسري بين ثنايا تلك المعاناة حتى وإن لم أعشها.. لانها جميعا سهلة المنال وبسيطة المعنى و بمقدور أي إنسان أن يخط عنها إن غاص عميقاً , عميقاً في خلجاتها وبين طياتها.. ولكن هذه المرة أعلن للكل أني عاجز, مبلد الأحاسيس, معطل المشاعر, مشلول الأنامل, شارد الذهن, مشتت الأفكار.. لا أقوى على لملمة أفكاري والسيطرة على قواي التي تمردت عليّ وأعلنت العصيان.. ومشاعري التي تعطلت وأبت أن تخضع وتنصاع لأوامري وتنفذ رغبتي في أن تخط أناملي وتسكب حبر قلمي على صدر صفحاتي, وتعبر عما يعتمل بين جوانحي عن هامة إنسانية ملكت القلوب وأسرت الأفئدة وسكنت سويداء القلب وألهبت الحماس وحركت المشاعر وسلبت العقول والألباب بمراقصتها أوتار العود ومغازلتها الكلمات لحنا, شعراً, طربا, نثراً, أدباً.. هامة شامخة لا تنحنيهامة لم تنحن أو تطأطئ من قامتها رغم المعاناة التي عاشتها بكل فصولها , ورغم الجحود والنكران لها من كل المعنيين الذين دأبوا على أن يحنطوها ويلحقوها بركب من استسلموا لمحاولات الإحباط والتجاهل والتدمير وباتوا صرعى للألم والمعاناة والقهر والانسحاق والبؤس الذي ظل يلازمهم حتى قضوا نحبهم وفارقت أرواحهم أجسادهم وغدوا جثثاً هامدة يندبها كل من عرفها وعاشرها طيلة مشوارها الفني أو الأدبي أو حتى الوطني.. هامة ظلت شامخة شموخ الجبال, تصارع , تكابد , تتحمل من أجل أن تظل تعطي بسخاء ويظل ينبوعها لا ينضب, ولتسير على درب الإبداع والأصالة والعطاء المتدفق كمدينته التي لم تبخل يوما بشيء على الوطن شمالا وجنوباً.. ظل شامخا لانه يعي أن الانكسار والخضوع معناه الموت البطيء, معناه الاندثار والضياع في تلابيب الحياة التي لا يرحم الأسياد فيها من ينكسر أو يخضع أو يستسلم لطقوس تجاهلهم وتدميرهم ونكرانهم لكل من نفض عن جسده غبار الإحباط والانصياع لملاءاتهم التي لا تتعدى أن يقول بلسانهم أو يصدح في مجالسهم أو يلمعهم ويرفع من قدرهم ويعظم أمجادهم الزائلة والهشة..قال أنا (فنان) خلقت لأن أسير على درب أسلافي وأجدادي وأجدد موروثهم وأحافظ على أمجادهم التي منحت الإنسان ذات يوم سعادة غامرة وفرحة عارمة وزرعت الابتسامة على الشفاه ولامست القلوب وداعبت الأحاسيس وعزفت على أوتار القلوب أجمل (سيمفونيات) الحب والعشق الصادق, بل أبكت القلوب قبل العيون حين تغنت عن الحب, عن الوطن, عن الحياة.عصام خليدي.. إبن عدن البار.. النبع الذي لا ينضب عطاؤه.. الصوت الذي يلامس شغاف القلوب ويأسر الألباب ويسبي العقول.. الصوت الذي تتدفق بمجرد أن تسمعه المشاعر وتنساب كشلالات فتية.. وحينما يراقص أوتار عوده تهطل دمعات العود وتنتحب حناياه وتنوح الأنامل التي تعزف بشاعرية مطلقة وإحساس مرهف قلما تجد مثله.. فتتماوج الدواخل وتتمايل الأجساد حينما يشدو ويغرد بصوته الملائكي وتتمتم شفتاه كلمات أغنياته التي تحمل فيضاً من المشاعر والأحاسيس والدفء والحنان والعطف والحب الخالص لكل شيء تغنى من أجله..بدايات قوية ... ونجومية مطلقةصدح في العام 1979م وهو مازال في ريعان الشباب والعنفوان وكان لصوته الغض الطري وقع في النفوس والدواخل ولكلماته التأثير الكبير على كل من كان يسمعه فهبت الجماهير وانتفضت من أماكنها وتعالت الصيحات والصرخات والتهبت المشاعر والأحاسيس وهاجت العواطف وقال الكل وبصوت واحد (لا فض فوك) وكان لهذه الكلمة الوقع الأكبر في دواخل الخليدي الذي لم يبحث يوما عن شهرة أو جاه أو سلطان, فلم يكن منه إلا أن شمر عن ساعديه وخطا خطواته نحو سلم الإبداع والتألق والتميز تحفه المباركات وترافقه الدعوات وتحثه المحبة لمدينته التي كانت بوابة الجزيرة والوطن آنذاك بمدنيتها وطيبتها وإنسانية أهلها الذين لا يعرفون سوى الفن والإبداع والمشاعر والأحاسيس والصدق والعطاء كشواطئها الوضاءة..فتوسم في الــ30 من نوفمبر من العام 1987م وسام الدولة من ( الدرجة الأولى ) كأحسن صوت في مهرجان الفنون السابع المقام على خشبة المسرح الوطني في التواهي وتقديرا لإسهاماته الفنية ولقدراته الأدائية في الأداء الصوتي والإبداع والإجادة في مختلف الألوان الغنائية واللهجات اليمنية بخصوصية وتفرد واقتدار وفذاذة..فضاءات الإبــــــــــداعومن هنا حلق (الخليدي) عاليا في فضاءات الإبداع والتميز والفن وبدأت رحلة حصاد الألقاب والشهرة تتوالى عليه ليس لانه كان يبحث عنها ولكن لانه أعطى بسخاء وبصدق وبشاعرية جعلت كل من حوله يرفعون القبعات احتراما وإجلالا لشخصه ولهامته الفنية التي رغم صغرها وحداثتها إلا أنها استطاعت أن ترتقي من الثرى إلى الثريا وتنافس وبقوة أولئك العمالقة الذين أثروا الساحة (العدنية) بالعديد من الأعمال الفنية القيمة وذات الجودة العالية الخالصة من شوائب الحداثة (المسخ) في زمننا هذا.. فحاز على لقب فنان وملحن وشاعر بدرجة (امتياز) معتمد من إذاعة وتلفزيون عدن في العام 1980م بعد أن دخل مضمار المنافسة الفنية بقوة من كافة النواحي أكان في الشعر أو الغناء أو اللحن وهو ماجعله محط أنظار الكل وإعجابهم وتهافتهم نحوه..وهذا أيضا منحه شهرة كبيرة سنحت له في المشاركة في العديد من المشاركات الفنية وفي كل المناسبات الوطنية وبأعلى مستوياتها الإبداعية منذ أن وطئت قدماه خشبة الفن ( العدني ) الذي كان رائدا فيه وقائدا ومشرفا عاما فنيا وموسيقيا وغنائيا في عدد من الفرق الموسيقية وقدم لها العديد من الأعمال والألحان الفردية , والجماعية , و الإنشادية الناجحة التي وثقت في أجهزة الإعلام اليمني..جامعة عدن .. نقلة نوعيةولم تتوقف رحلة الشهرة والتألق للفنان (الخليدي) هنا فقط بل فتحت له العديد من الأبواب وتلقته العديد من المناصب التي كانت تبحث عمن يقودها بصدق وإحساس وشاعرية فتقلد قيادة الفرقة الفنية الموسيقية المركزية في جامعة عدن خلال العام 1997م حتى العام2003م, واستطاع بخبرته الفنية وإمكانياته الإبداعية وملكاته الربانية أن يخرجها من النشاط الصفي التقليدي الرتيب في إطار الجامعة ويقدمها في الاحتفالات المركزية والوطنية الرسمية في عموم الوطن, فحقق بهذا العمل وتلك الجراءة التي لم يمتلكها غيره ولم يقدم عليها أحد قبله نجاحاً منقطع النظير, كما ساعدته هذه الخطوة الجبارة والعملاقة التي قام بها في أن يكتشف العديد من المواهب والأصوات الفنية الشابة التي كانت تمتلك خامات صوتية رخيمة وممتازة فقدم لها العديد من الأعمال والألحان الخاصة إيمانا منه بقدراتها الفنية وإمكانياتها الصوتية ولم يبخل عليها بشيء وهو الأمر الذي جعل من (الخليدي) محط حب واحترام الكل من الطلاب والأساتذة وعامة الناس في ربوع الوطن..التحول والنقد الفنيالخليدي رغم الإمكانيات المادية البسيطة التي كان يعيشها والظروف الصعبة آنذاك وكذلك التجاهل والإجحاف الذي لحق به لم يتوقف أو يستسلم قط, بل واصل مشواره الفني والأدبي وحاول اللحاق بركب الفنانين الذين ملؤوا الساحة الفنية داخليا وخارجيا ولكن بطريقته الخاصة وبالحفاظ على هويته العدنية الجنوبية وخصوصيته الفنية التي تفرد بها دون غيره فكان من الفنانين اليمنيين الأوائل الذين قدموا الأغنية اليمنية بشكلها الحديث (الفيديو كليب) الهادف الذي يحمل قيمة أدبية وفنية ومضموناً له خصوصية يمنية أصيلة بعيدا عن الفن الهابط الذي لايتعدى تمايل الأجساد وعريها وسفورها دون أن يكون لها أي مدلول أو قيمة, وقد حصل على شهادة تقديرية بذلك الخصوص من تلفزيون (المستقبل) في لبنان عام2000م على أغنيتيه (الحلم) و(صبي يامطر) المصورة بطريقة الفيديو كليب للمخرج المبدع الأستاذ/ جميل علي عبيد..ولم يكن هم (الخليدي) وشغله الشاغل الصوت واللحن فقط بل دأب على كتابة الكثير من القراءات النقدية والأدبية والموسيقية الجادة والموضوعية العلمية والنقدية والدراسات المنهاجية لرواد الغناء نشرت في معظم الصحف والمجلات اليمنية والعربية بشكل متواصل ونوعي صادق وبطريقة جميلة جدا تجبر القارئ على قراءتها بشغف وجنون إن لم يبتلعها لما تحمله في طياتها من شرح مفصل وقراءة جميلة ونقدية وبأسلوب أدبي جميل يحمل الكثير من المعاني والدلالات الأدبية التي تفرد بها الخليدي بأسلوبه ( السهل الممتنع)..العمالقة وألحان الخليديولان الخليدي تفرد في كل شيء وامتاز بصوته العذب الشجي وألحانه التي تطرب لها الآذان وتستعذبها الأرواح هرع معظم الشعراء الكبار بأشعارهم وقصائدهم لفناننا المبدع الخليدي فصاغها نغما صافيا عذبا بألحانه المتميزة الراقية التي تمتاز بطابع العذوبة والرقة والإحساس ومن هؤلاء الشعراء الكبار نذكر أحمد الجابري، محمد سعيد جرادة, محمد سعد عبدالله, عبدالرحمن السقاف,علي عمر صالح, والشاعر مبارك حسن خليفة.. إضافة لما قدمه الفنان عصام خليدي من ثنائيات فنية مشهودة ومعروفة في ساحة الغناء اليمني مع الفنانين الكبار الذين قدموا لصوت الخليدي العديد من الألحان ورأوا في صوته مستقبلاً للغناء ومايزيد من شعبيتهم وتوسع قاعدة محبيهم ومعجبيهم, ونذكر من هؤلاء العمالقة على سبيل الذكر لا الحصر الفنان / محمد مرشد ناجي , والفنان/ محمد سعد عبدالله , والفنان/ أحمد بن احمد قاسم , والفنان/ محمد عبده زيدي والفنان أحمد باقتادة والفنان أحمد محمد ناجي..القرن الماضي .. إبداع متدفقوبالعودة إلى (ثمانينات) و( تسعينيات ) القرن الماضي فقد حقق (الخليدي) حضورا فنيا كبيراً جدا (كملحن) وقام بتبني العديد من الأصوات النسائية التي شهدتها الساحة الفنية آنذاك ورفدها ودعمها بالعديد من الأعمال والألحان ومن تلك الأصوات البديعة والرائعة التي قدم لها الألحان الفنانة / نوال محمد حسين في أغنيتي ( راعي وحطابة ) و( وين أشتكي بس ياعالم ) التي حققت نجاحا وشهرة كبيرة بالإضافة لما قدمه للفنانة الراحلة صاحبة الـــصوت الرخـــيم والـــــــعــذب (منى همشري) التي قدم لها عملين غنائيين الأول بعنوان ( ياقـــــــلب كفـــــاية) والــــثانــــــي بعـــــنـــوان ( لا تشتكي من حبيبك ) كما قدم للفنانة إيمان إبراهيم أغنيتين في غاية الروعة والـــجـــمال الأولـــى ( يا دنيا ) والأخيرة رائعة وأنشودة (ياصوت نابع من ضمير).. ولاننسى تعامله اللافت والمبهر مع الفنانة المبدعة / أمل كعدل في أغنيتي ( دل الرشاء) و( رغم السنين ).كما شكل (الخليدي) ثنائية فنية متألقة مع الفنان الكبير محمد سعد عبدالله في بداية التسعينيات من القرن الماضي وقدم له (بن سعد ) ثلاثة نصوص غنائية قام الخليدي بوضع الألحان لها واللمسات الفنية التي شكلت نسيجا فنيا ووحدة إبداعية مترابطة ومتمازجة مع كلمات وأشعار الفنان الراحل محمد سعد عبدالله وقدمها الخليدي بصوته المخملي الرقيق الحساس فلاقت شهرة وحضوراً وإعجاباً جماهيرياً كبيراً.خاتمة مؤلمةورغم هذا العطاء المتدفق والسخاء الذي قدمه الفنان الخليدي منذ بداياته الفنية والإبداعية, وذلك الصدق والتفاني الذي عُرف به الخليدي إلا أنه لم يحظ بما ينبغي أن يحظى به أي إنسان خدم الوطن وقدم له الكثير من الأعمال التي نسجها من مشاعره وخطها بدم قلبه ونحتها على جدران جسده.. وتجاهله المعنيون ولم تقدم الدولة ممثلة بوزارة الثقافة والإعلام التكريم اللائق المستحق للفنان الأديب متعدد الملكات عصام خليدي حتى كتابة هذه السطور رغم ماجاد به الخليدي من إبداعات متميزة وإستثنائية في زمننا الحاضر زمن القحط الفني والإبداعي.وهذا ليس بغريب في وطن صودر فيه كل شيء وبات خاصاً ومفصلاً لكل من لديه اليد الطولى في أجهزة الدولة فلا يذكر الفنان أو المبدع أو المتألق في هذا الوطن إلا بعد أن يغدو جثة هامدة لا حراك فيها , وبعد أن تنهال على جسده حفنات التراب ويحتضنه منزله الأخير, وإن ذكر فلا يذكر إلا بشهادة ورقية لن تحييه وهو رميم ولن تخلد مجده الذي منحه الوطن ذات يوم..الخليدي اليوم لا تتذكره الدولة العظيمة ولا تتذكره وزارتها المعنية بالفن والفنانين لانها لاتهتم بمن قدموا دون أن ينتظروا أي مقابل والذين يدركون معنى وجودهم والغاية من أعمالهم وحياتهم.. بل تتذكر أولئك الذين تمتد أيادي ذويهم وأهاليهم الذي يمتلكون ( أكتافاً) في الدولة وتجزل لهم العطاء والبذل وتعظمهم وتصنع لهم التماثيل والمجسمات وهم لا يستحقونها..الخليدي لا ينتظر شفقة أو رحمة من أحد أو (ريالات) هزيلة بائسة لا تسمن ولاتغني من جوع فهو كبير بعطائه وسخائه وفنه الذي لن يندثر أو يتلاشى مهما تعاقبت عليه السنون, ولكن أقل القليل كان حريا بالمعنيين في الوطن أن يخلدوا فن الخليدي بكلمة شكر تشعره أنه حي في نفوس أسياد هذا الوطن البائس وتخبره أن ما قدمه لم ولن يذهب هباء منثوراً..
مع الفنان الراحل محمد مرشد ناجي
مع الفنان الراحل محمد عبده زيدي