نادية البريني ما بين حدود الزمان والمكان ذكرى متوهجة في أعماقي... كان المكان شديد الظلمة، ألقوني داخله دون رحمة، احتاجت نفسي إلى استعادة توازنها بعد أن بدأت تألف هذه الظلمة لكن...رأيت جسدا ملقى إلى جانبي لا يبدي حراكا،لا أعرف إن كان على قيد الحياة أم فارقها،لم تقو نفسي على رؤيته والدماء تنزف من جسده،أراها سوداء سواد هذا المكان وقتامته.انتفضت ،صرخت عاليا لكن الصوت تردد في أعماقي ولم يغادرها.باغتت مخيلتي لقطات مفزعة لأحداث شبيهة... أراني في قبضتهم، أختنق، أختنق حتى تكاد روحي تنفصل عن جسدي...ويل هذا الانتظار المرير،أعرف أنهم سيكونون هنا بين حين وآخر لكن الانتظار يقتلني...خرجت من رحم هذا المكان الذي حاصرني داخله عشرين سنة مولودا جديدا، أخرجني الزمن من دائرة أحلامي،جعلني منبتا في مكان نشأت فيه وترعرت...فارقتك يا صغيرتي وأنت رضيعة وها أنا أعود إليك وأنت فتاة مكتملة الأنوثة،تغيرت أشياء كثيرة في لكن تلك السنوات العصيبة ثابتة بتفاصيلها ودقائق أمورها.الثواني تمر ببطء شديد وتحمل معها ذخيرة صبري وجلدي،أخيرا أتوا ليأخذوني إلى هناك،لم يكلفوا أنفسهم عناء النظر في ذلك الجسد المثخن بالجراح،أعرف أي مصير ينتظرني لكنني مللت الانتظار.كانت نفسي تنفلت مني وأنا أتلجلج بين أيديهم،مسافات تفصل بيني وبين شجاعتي المعهودة، رغما عني حاصرني الخوف، كانت أيديهم ضخمة وأصواتهم الخشنة مستفزة.أدخلوني غرفة المحقق،استقبلني بصفعة مدوية كادت توقعني أرضا لكنني تماسكت،رافقت الصفعة نبرات صوته الحادة وهو يقول:«لا تحاول تضليلنا،أخبرنا بكل التفاصيل،نعرف عنك كل شيء».سمعت عن أساليبهم القذرة في انتزاع اعترافات، علي أن أصمد، أعرف أنهم يقودونني قسرا لأخبرهم بما حدث وبما لم يحدث،انتزعني صوته المفزع من صمتي:«أنت واحد من الخونة،لدينا اعترافات موثقة،أمضى رفاقك على ورقة الاعتراف، لا فائدة من الإنكار”.قلت في ثبات رغم أن الخوف يضيق علي الخناق:»لم أفعل شيئا، أقسم أنني...« وقبل أن أتم جملتي ركلني بقدمه ركلة موجعة أصابت مناطق حساسة في جسدي، شعرت بألم شديد،يريد المحقق أن يقتل في رجولتي،حتى وإن قتلها فعلا فلن يقتل إيماني بمبادئ، سأدافع عنها إلى آخر رمق في حياتي.لم أكن أعرف ساعتها حدود هذا الرمق،خلته بعد ساعات قليلة أو بعد أسابيع لا أكثر، القدر أخرج الزمن من دائرتي وحرمه فرصة الانتصار علي لكن لم يحرمه أن يكون شاهدا على ما أصابني.لم يطل صمت المحقق ، نفد صبره، أوقعني أرضا وضغط على وجهي بحذائه وهو يردد «تبا لك، ستبقى في ضيافتنا حتى تحكتم إلى رشدك».غامت الدنيا أمام ناظري ،شعرت بسائل حار يتدفق من أنفي، ند مني أنين خافت ...يئن جسدي،تئن كل ذرة من ذرات هذا الكيان المشروخ.ندت من المحقق ضحكة ساخرة رافقها قوله “لا تنس أنك في ضيافتنا وواجب الضيافة يقتضي منا أن نكرمك صباحا ومساء،أعيدوه إلى زنزانته حتى يهضم هذه الوجبة”.وجدتني مجددا في الزنزانة،حملت إليها بنفس الطريقة التي أخرجت بها منها...أرأيت يا ابنتي لماذا لم تستطع نفسي أن تألف بيتي الذي فارقته مجبرا إلى فضاء آخر؟لم أغمض عيني تلك الليلة ،كنت أنتظر أن يداهمني الجلاد في أية لحظة ليحملني إلى المحقق مجددا،رأيتهم في يومي الأول هناك يعنفون سجينا ارتدى الصمت فقلعوا أظافره عنوة ليعروا مكامن نفسه وما يخبئه القدر.كل ذرة من ذرات جسدي تئن أنينا موجعا يتجاوب صداه مع أنين غيري من المساجين...سجناء الرأي العام يختلفون عن أي سجين آخر،هم سم زعاف في عرف النظام الحاكم.تهمتي أنني كنت أتغزل بالحرية في كتاباتي فغزلوا من حروفي سياطا جلدوني به جلدا حتى كادوا يذيبون الجلد ويشرفون على العظام التي تتوارى في خوف تحت لحم منتهك ومنهوك.اتهموني بنظم أشعار فيها تحريض على إسقاط النظام وأرادوا أن يسقطوا عني إنسانيتي في ظلمة السجن الحالكة.لا،لا،أصبحت شخصا آخر غير الذي تعرفون،ولدت من رحم أوجاعي ولادة قيصرية خلقت تشوهات في روحي وجسدي.أرى خيالاتهم في كل ركن من أركان البيت،هذا البيت الذي احتضن آمالي صغيرا ويحتضن آلامي كبيرا،هذه الخيالات تقض مضجعي،أراهم يجرونني قسرا إلى غرفة التعذيب،يجردونني من ثيابي ،يقيدون قدمي ويثبتونها إلى الأعلى فأجدني رأسا على عقب لمدة ساعات طوال،أحس أن أمعائي تكاد تنفلت مني،يطالبونني ساعتها أن أتغنى بالحرية في حين تنهال علي ألسنتهم بوابل من الشتائم،أعود بعدها إلى زنزانتي أجر جر الكلاب وقد عجزت قدماي عن حملي إلى هناك...أراهم الآن يا ابنتي في كل مكان،يتنصتون علي من ثقب الباب،يحفرون في ذاكرة أيامي حفرا...لا،لا أستطيع الصمود أكثر،خرجت من رحم السجن مولودا أصابته تشوهات كثيرة فأنهكته.أرى في عيني والدتك ألما عميقا أخبروني به ذات شجن فنزل علي نزولا صاعقا،انتهكت أنوثتها بأيد قذرة،اغتصبت كرامتها وعنفوانها،اغتصب عرضها وعرضي، اغتصب عرض وطن...صمتت وكتمت أوجاعها داخلها حتى لا تضاعف شقائي لكنني أقرأ ما في عينيها، تتكلمان في صمت، تعريان بعض ما عانت صاحبتهما في غيابي.مذ غادرت السجن وأنا محاط بهاتين العينين الحزينتين الصامتتين،لم تخبرني بتفاصيل ما حدث لها لكنني تصورت بشاعة ما مارسوه في حقها.في السجن كانوا يجبروننا على التعري تماما ويقتصون من رجولتنا بالسطوة على أعضائنا التناسلية حتى يذيبنا الوجع ذوبانا فننصهر في أتون حارق،الوجع الذي يخترق الجسد ليصل إلى الروح.لا،لا أستطيع أن أتحمل مرارة دفينة تتجرع والدتك كؤوسها،أجلد نفسي ألف جلدة كلما التقت عينانا وتحادثتا في صمت...أنا من ألقى بها بين أيديهم القذرة.خرجت من السجن غير الذي كنت،جف رحيق قلمي،جف نهر الحياة في عروقي...اعذريني صغيرتي،أراهم في نومي وفي يقظتي،باتت غرفتي غريبة عني، هناك في تلك الزنزانة اغتيل شبابي،خرجت كما ترين عظاما أبلاها التعذيب فرسمت عليها جغرافية وطن تنتهك فيه إنسانية الإنسان.كنا ننام حذو ما تلقيه أجسادنا من فضلات وكانت تجف مع مرور الأيام حتى تصبح أحد معالم ذلك المكان بل أثر حضاري دون تاريخ.لقد فصلونا عن التاريخ ساعة فصلوا عنا إنسانيتنا،أصيب معظمنا بعاهات مزمنة بسبب الجراثيم التي سكنت أجسادنا،بعضنا قضى نحبه هناك دون أن يعالج وأنا كما ترين خرجت ميتا بين الأحياء،تغييرات مناخية كبيرة أثرت في تضاريس جسدي وروحي،انجرفت التربة الخصبة من حقل روحي فتصحرت، زلزل كياني لكن لم تخرج حممه من فوهة بركاني بل غصت في أعماقي،تلك الأعماق التي اختزنت وجعي ورافقتني في زنزانتي الانفرادية التي ترددت عليها مراراعندما شققت عصا طاعة جلاديي.كنت لا أرى فيها النور ليلا ولا نهارا، أحسب الأيام والليالي حتى تختلط الأمور في ذهني اختلاطا،أحادث نفسي في صمت المكان فيرتد الًصدى إليها،أحدثها عن طفولتي ،عن مرتع صباي،عن تاريخ مضى ومضت معه أحلامي.اعذريني صغيرتي، أنا غير الذي كنت،لم أجد نفسي هنا،سأرحل بعيدا حتى أستعيد بعضا مني...
|
ثقافة
حتى أستعيد بعضا مني
أخبار متعلقة