في البداية اسمح لنفسي باستعارة كلمة (سوالف) هذه التي تقال في لهجة اخواننا في دول الخليج العربي وكان بالامكان الاستعاضة بدلاً عنها بكلمة (ذكريات) إلا ان أواصر الترابط بين أبناء الجزيرة العربية لا تعد ولا تحصى وقد استحضرت هذه الكلمة (سوالف) من أحد مقاهي المدينة الرائعة (عدن) فعندما تجلس في أحد هذه المقاهي التاريخية تسمع بين أوساط روادها من الاجيال القديمة والجديدة جدالات وحوارات وكأنها معارك أدبية لتذكر الزمن الأصيل في هذه المدينة الحضرية الراقية ومقارنة الحياة المعيشية قديماً بما آلت إليه الأمور في الوقت الراهن ومن بين ما سمعت من تلك الحوارات التي تدور بين رواد أحد المقاهي قول أحدهم وهو من الناس الذين عاصروا الاستعمار البريطاني لجنوب الوطن وعاشوا زمان الاستقلال حتى هذه اللحظة سمعته يتأوه ويتحسر وهو يخاطب احد الجالسين لاحتساء بعض الشاي من شباب الجيل الجديد ويقول له: من أين ابدأ يا بني بالحديث وأحكي لك عن أيام لا تنسى ولا يمكن ان تتكرر؟ لقد كان الناس يا بني في عدن يعيشون وكأنهم أسرة واحدة برغم اختلاف ألسنتهم وألوانهم في تآلف وتراحم وتواد ومحبة بصدور رحبة لا يعرفون إلا لغة التسامح ولا يعرفون الحقد والكراهية والحسد والنظرة العنصرية وكانت عدن تحتضن كل من وفد إليها وكأنها مثل كافل اليتيم حتى سماها البعض (أم اليتيم) وكان الناس يحترمون النظام والقانون ولا يخترقونه أو يتجاوزونه كما يحدث اليوم فقد كنت ذات ليلة مع أحد الأصدقاء في سيارته وفي ساعة متأخرة من الليل ومررنا بأحد الميادين العامة أو الجولات وشاهدت صاحبي قد توقف امام اشارة المرور الحمراء آخر الليل ولا توجد أي سيارة قادمة أو ذاهبة والشارع خال من المارة أو السيارات فقلت له: لمَ توقفت؟ فأجاب: إشارة المرور الحمراء لن أتجاوزها؟ فقلت له: نحن الآن آخر الليل ولا يوجد عسكري مرور يراقبك ويسجل عليك مخالفة ولا توجد سيارات ولا ناس فامض بنا نهرول بالسيارة فأصر على المضي بعد ان تظهر إشارة المرور الخضراء لأن الرجل تربى على نظام وقانون واحترام المبادئ التي يقوم عليها أي مجتمع مدني متحضر فقلت له في نفسي والله ان الدنيا بخير وان النظام أفضل من الفوضى بآلاف المرات. هذا مشهد من المشاهد التي لا يمكن ان أنساها وسالفة من السوالف التي تذكرنا بذلك الزمن الأصيل والبسيط .. وهناك موقف آخر سأقص عليك تفاصيله ولا يبعد كثيراً عن الموقف السابق فقد وصل موكب أحد المسؤولين الكبار إلى نقطة تفتيش وأراد بسيارته ان يدخل أو أن يتجاوز أو يعبر تلك النقطة دون ان يتوقف للحظة لكي يقوم الموظف المسؤول عن تلك النقطة بالتثبت والتحري واستجواب من بداخل تلك السيارة حتى يسمح لهم بالمرور فأصر ذلك الموظف على عدم السماح لتلك السيارة التي بداخلها ذلك المسؤول بالعبور واجتياز تلك النقطة إلا بعد إبراز رخصة المرور ودخل في شد وجذب مع سائق ذلك المسؤول ومع المسؤول الذي قال له: بأنني المسؤول الفلاني والمدير العلاني فأجابه ذلك الموظف البسيط بثقة وجراءة: أنت مسؤول كبير على عيني ورأسي ولكن القانون والنظام الذي تعلمناه منكم يحتم علي تقديمه أولاً واحترامه أولاً وتطبيقه أولاً حتى لو فقدت وظيفتي هذه ومصدر رزقي.فأعجب ذلك المسؤول بشجاعة ذلك الموظف البسيط في نقطة التفتيش تلك وسأل عنه زملاء له مسؤولين عليه وأحضره إلى مكتبه في صباح اليوم التالي وظن أولئك المسؤولين عن ذلك الموظف بأن المسؤول الكبير سيطردهم جميعاً من العمل فكانت المفاجأة أن قام بترقية الموظف البسيط وأكرمه ورقاه في وظيفة أكبر بسبب اخلاصه وتفانيه في عمله وبسبب صدقه وشجاعته والتربية التي تربى عليها وقال له: نحن فخورون بأمثالك والوطن بحاجة إلى هذه النماذج التي تستحق ان نعتبرها من رموز جنودنا المجهولين الذين نصنع لهم المجسمات والرموز الوطنية المخلصة في الميادين العامة والساحات .. كانت تلك يا بني سالفتين من السوالف من الزمن الجميل والأصيل والحضاري أما اليوم فقد اختلط الحابل بالنابل ولم نعد نميز بين الغث والسمين ولا بين الأسود والأبيض وكادت القيم الحضارية والاخلاقية ان تختفي ولكن الخير سيبقى حتى قيام الساعة وربما المستقبل يخبئ لنا ما هو أفضل أو يكرر التاريخ نفسه باستعادة ذلك الزمن الأصيل.
|
آراء
ذكريات عدنية ..!!!
أخبار متعلقة