كتب/ محمد مهيمإن الجوهري هو العثور من جديد على الطريق التي تم بها التعبير عن الواقع التاريخي والاجتماعي ( عبرالحساسية الفردية للمبدع ) في العمل الأدبي أو الفني الذي ندرسه . لوسيان كولدمان. [c1]إرهاصات :[/c]كثيراً ما ينهال على المرء سيل من الأسئلة وهو يتأمل عملاً فنياً ما كالكتابة، من ذلك مثلا : ـ ما جدوى هذا الإنتاج الفني أو ذاك ؟ ما الدوافع التي تكمن وراءه ؟ ـ هل مصدره ذلك نزق طفولي ـ فينا ـ يمتطي العبث والاستهتار بميثاق الكتابة فينتج عوالم طفولية تنتظر النضج العمري؟؟! أم أن نضج الكتابة لايخضع لهذا النوع من المعايير ؟ ـ و من جهة أخرى هل مصدر الكتابة نزوة ذاتية عابرة و ترف فكري لتزجية الوقت أم أنها رسالة إنسانية قبل كل شيء ؟ إنها تداعيات تبتغي تبيان علاقة الفنان/ الكاتب بالواقع التاريخي والاجتماعي لأمته . يتألم لألمها و يشكو لشكواها ، يعبر عن قضاياها الإنسانية . سراجها الذي ينير طريقها إلى الوعي الممكن، منتشلا أياها من براثن الوعي القائم . أن الكتابة الجادة فعلا تأبى التقوقع في وعي ذات تعاني اختلالات عاطفية وهستيريا معرفية .... تلك كانت بعض الإرهاصات الفضولية التي باحت بها هذه الأنا الساردة في قصة الغروب، (أنا ) بحجم أمة منتفضة من جراحات أكبر من أن تكون ذاتية .[c1]البنية الدالة للخطاب :[/c]حين تشتد الأزمة بالذات، وتضيق بها السبل، فترى الكون حولها عاجزا عن احتواء طموحاتها، وتلطيف همومها، و الإجابة عن أسئلتها المشاكسة، العنيدة . ـ أسئلة الهوية و الحرية والوجود والفقد والوفاء ... أسئلة تطال القضايا الإنسانية طيها الفردية، حينها تبحث الذات عن منفذ فلا تجد سوى ذاتها تناجيها ، تلتمس فيها حضنا رؤوما يتسع لما ضاقت به دروب الحياة، ولفظه الواقع . وعبرها تعيد تشكيل خريطة هذا العالم تشكيلا ذاتيا أو قل (تذويته) باعتبار هذا الأخير أحد الأشكال التخييلية التي تخول للذات ممارسة بناء عالمها / عوالمها متوسلة الحلم والمنولوج التذكري و الاستيهامات وحوارية الأصوات عبر الأبعاد التصويرية التي تؤثث بها خطابها .[c1]ثورة الأنا :[/c]ذاك ما سعت إليه ذات الحالة في قصة الغروب بوصفها محكياً يطرح معاناة ذات مأزومة ، متوترة، منفعلة إلى أقصى الحدود، تكابد الألم في عناد سيزيفي ، كما تؤشر على ذلك أساليب التصييغ، ومسار نمو الحدث الدرامي، وحقول التشاكل، وتنوع الخطابات . إذن فالذات معتبرة كمصدر للمناجاة و البوح بوصفها تلك الصورة الفنية ـ لاالشمسية ـ المشكلة عبر الحلم، والاسترجاع، والمرآة، والغرفة، من خلال ذلك تشرف على هويتها، قيمها الأصيلة، تحتمي بها من قساوة الحياة وتعنت الزمن، وجور الآخر، وفقدان الأحبة . حتى تتمكن من لملمة شروخها النازفة ، حكاية ذات مع واقع مرير وماض أمر ومستقبل ضبابي كما سنرى (أتأمل عينيه العميقتين بتلك النظر الغائمة ..)، حكاياتها مع عالم التبست فيه القيم وتماهت فيه المفاهيم، وتعددت معاييره. لذا لانستغرب ـ في عالم هذه هويته ـ من هذه الصرخة المدوية لذات أضناها الشوق إلى ذاتها، صرخة وجدان تبعثرت مشاعره، وفكر تعطلت رؤاه ، صرخة الأنا الثكلى التي تحررت من قيود الواقع في سير حثيث نحو ذاتها / صورتها . فذات الحالة تعيش بين اليقظة و النوم، بين الكائن والممكن والذي كان ، تحلم فتمارس سلطتها على الأشياء من حولها تستفيق ( أفيق وتفيق معي الذكرى موجعة كالقهر .... ) فتجد نفسها محاصرة بوخز الواقع الذي يفجر معاناتها التي تعددت صورها المؤلمة وماض لم يخلف إلا الحسرة ( وذا هم أحبة صدقوا ولكن رحلوا ) ــ ( أفيق وتفيق معي الذكرى ...) (أحاول الهرب من الحسرة خشية أن يمضي الوقت ) .لذا نجد هذه الـ(أنا) التي جعلها السارد بؤرة للإشعاع الدلالي، تحيل على صرخة أكبر من أن تحتويها قضايا وهموم فردية بل تتجاوزها إلى ماهو جماعي / إنساني : ـ صرخة وجود أولى تنفتح على تعدد احتمالي، يربك المتلقي بصداه المتمدد ، المنفتح على كل أنا تجهر بمكنونها الأليم بالطبع، أنا بحجم المتنبي والمعري و الحلاج وصلاح الدين . قبل أن ينتقل بها السياق إلى حالة وجود ثانية، تضيق مجال الاحتمالات، وتقلص من انفتاحها اللانهائي ( من هده الشوق إلي، وأخذه الهم بعيدا بعيداً عني ..وألزمني زمني مالا أطيق ) إنها ذات تحمل هما مشتركا / إنسانياً مؤول ذلك انتقال الخطاب من الخاص إلى العام، من الفردي إلى المشترك من ضمير المتكلم الخاص إلى الموصول المشترك، لتنقل التجربة من الذاتية إلى المشترك الإنساني، إنها ليست الذات الوحيدة التي اكتوت بهذه المعاناة، لكن كانت لها القدرة على الجهر بمأساتها، مأساة ذوات تعيش غربة ذاتية، دائبة البحث عن كينونتها في متاهة الحياة ، وتوالي النكبات التي تفتك بالذات العربية، وتجهض أحلامها . مأساة هذه الذات تكمن في أنها عاجزة حتى على الاتصال بذاتها، لأنها كلما حاولت ازدادت الهوة عمقا عبر صورتي الهم والزمن باعتبارهما وجهين لعملة واحدة ـ كما سنرى ، فتتجذر المعاناة. إضافة إلى الشوق الذي يتحول إثر الهزائم المتوالية و الاحباطات المتكررة، إلى مصدر للمكابدة و التحسر، مؤول ذلك الفعل (هد ) الذي يؤشر على المحاولات المتكررة، الفاشلة طبعا . إذن فمعاول الهم، و الزمن، والشوق لا تتوانى في حفر أخاديد الألم، ونزيف الجراحات، فتورق أحزانا تطوح بآمال الذات وأحلامها متمثلة في : طفوح الذاكرة بالأحداث الأليمة ــ توالي أفول نجوم الأحبة ــ معاناة الذات في العثور على أجوبة لأسئلتها المشاكسة ، مصدر همها ،وعدم قدرتها على نسيان ماضيها الجريح ، مؤشر ذلك الملفوظ ـ ليت ـ الذي يدل على استحالة تحقق الرغبة ،( فليت أنسى وكيف أنسى.. وذا فحيح ذكرى ...... ).إذن ذات الحالة توزعت بين الشوق و الهم و الزمن والفقد ، صور سردية مصدر شقائها وتعاستها بوصفه المرسل الذي أرغمها على الجهر بحرقة المعاناة : شكوى الفقد، والاغتراب، والمكابدة، والغبن، والعجز .فالفقد / رحيل الأحبة يزيد من تفاقم العلاقة بين الذات و الواقع، يدفعها إلى مزيد من الاغتراب والتأزم والانشراخ لأن وجودهم كان يمثل قيما إنسانية مثلى، ناضلوا من أجلها، تهب للحياة طعمها الرائق، قيم الوفاء و الصدق والإخلاص والحرية والكرامة... وبفقدانهم تلظت الذات في حمم النفاق الاجتماعي والخيانة وبرودة المشاعر والتشيؤ والاستعباد (المعصرن ) وتأجيل الأحلام.... ذلك أن استحضار موتانا عادة ما يمثل ملاذ الذات المأزومة تطرح من خلاله سؤال الكينونة و المصير ، دعوة إلى التفكير في الحياة والموت ، في ماهية الكون و أشيائه ، الحركة و الثبات، ما حقيقة هذا الواقع الذي يجبر الذات على الاحتماء بالأموات ؟ ما سر هذه الذكرى الخنساوية التي تؤرق الذات تؤجج فيها حرقة السؤال وسعير المشاعر الحزينة ؟ ولماذا تجد الذات نفسها عاجزة عن الاتصال بذاتها وبالواقع من حولها ؟ هذه الأسئلة وغيرها تقض مضجعها ، فلا تجد إلا التذويت بوصفه آلية تسعفها على خلق عوالمها الحميمية عبرها تجد تأويلا لمعاناتها، وإجابة لبعض تساؤلاتها .[c1]عبــــور :[/c]وهذا ما تؤشر عليه حركتا، إزالة ( اللحاف) والسير نحو (المرآة )، إن الحركة الأولى تشي بعبور وشيك من برودة الواقع إلى حرارة الالتحام (بالذات) إنها حركة كشف الحجب التي تمنع الذات من وضوح الرؤية، والتخلص من اكراهات الهموم وحصار الزمن . أما الحركة الثانية فعبور إلى عالم الذات الجواني عبر المرآة بوصفها كوة للمكاشفة و المواجهة، مواجهة الذات لواقعها المأزوم بمداعبتها لوعيها الباطن ، لذلك الهو القابع هناك الذي يأبى الانصياع لضغوطات الواقع، و بعيدا عن إكراهات الوعي ، والكاشف لمظاهر الزيف والمغالطة التي تسم العلاقات الإنسانية الصادمة لبراءة الذات و عفويتها، الشيء الذي يدفعها للبحث عن سند فلا تجد إلا ذاتها وسيلة لتذويت هذا العالم ، وقد تأتى لها ذلك حين رأت وجها مخالفا للوجوه التي يزخر بها عالم الواقع ، كله رقة وحنان ومهابة وإجلال، وجه (الفقيد)... فتسلك الذات هنا تقنية الاسترجاع وعبر تخييل مضاعف ترحل بنا بعيدا فضاء وزمن الواقع الموبوء ، استرجاع مصدره عالم المرآة لتستحضر لحظات الفقد فتطفئ حرارة الشوق و لوعة الفراق، وتكشف ماهية الزمن الذي لايطاق، عبر منطوق الحكمة على لسان الفقيد في رد ه عن تساؤل الذات حول بياض الشعر اللامع في رأسه ، حيث اعتبرها حركة الزمن التي لا تتوقف ولاتفنى بفناء المادة أو بتوقف دورة الحياة ، ذلك أن الحياة شروق وغروب تبدأ بسواد الشعر وتنتهي ببياضه شأن دورة الشمس ، لكن دورة الشمس في استمرار و حياة الإنسان إلى زوال ، وأن ما يقلق الذات ويؤزمها هو المفارقة المتولدة حركتي الاستمرارية و الزوال : الرحيل المتواصل لكل ما يمثل الجميل من القيم الإنسانية ، حيث تقف عاجزة أمام ذلك .. إنه فعل الزمن في الأشياء التي طالما عانى منها الإنسان ، ( كانت الشعرات البيضاء بيارق الرحيل يوم التمعت في رأسه تؤذن بوداع محتوم ..أجابنا لا أدري جادا أم عابثا يوم سألناه عن ذلك اللون الجديد : هي الشمس لا تمل شروقا و غروبا .. كم أشرقت وكم غربت، إنها سرمدية الزمن هشاشة الإنسان . وتتحول الرؤية عبر الوميض والماء، باعتبارهما صورتين للتحول ، نحو دهاليز الذات، واستبطان أفاقها. فالوميض الذي طال العين إعلان بتغييرفضاء المشاهدة والمكاشفة الرؤية)، والماء (غسل الوجه) مؤشر على تحول في النواة السردية المولدة لتناسل الأحداث من الوجه إلى الغرفة، باعتبار هذه الأخيرة جسرا آخر للعبور إلى الذات، دون أن تفقد صلتها بالمحور الدلالي ـ بكسر الدال ـ العام، المتمثل في الوعي الباطني الجمعي الذي تمتح منه الذات صورتها / صور المكاشفة والمواجهة،هكذا تنفتح غرفة بل غرف الذات المتماهية مع هذا (الهو) اللصيق بتحولات الذات الفضائية لا الزمنية، لنعيش معها تفاصيل الحياة البسيطة والعفوية المفقود بفعل تحكم سلطة الزمن الكرونولوجي الذي يعفي على الأشياء . تفاصيل حياة جمعت بين القيم الروحية والمعرفية والمادية، لتجول بنا عين الخيال في حيثيات هذه الغرفة / الذات والحياة معا، ولنتأمل كم هو أليم ومضن ذلك الشوق الذي يعمل على تآكل ذات الحالة، متحسرة على الغروب المتواصل لكل ما هو جميل ، وعجزها عن إيجاد تأويل للأسئلة المعلقة : الزمن ـ الوجود ـ حرية الإرادة ـ الحياة ـ الفقد ....وجدتني في غرفته هو .. كانت رائحته المميزة ما تزال عطرة المكان .. هذا مضجعه وتلك ثيابه وذاك مكتبه ..(.....) ترددت في مسامعي شكواه الدائمة من الزمن .. ما لي من عدو غيره ) .إن الشمس والشيب والساعة والرحيل ... أبعاد تصويرية لمعنم سياقي هو الزمن بوصفه آلة التحول والفقد والزوال . فإذا كانت الشمس و الشيب صورتين لحركة الزمن الطبيعي الذي، ترى الذات إنه يقتات من سيولة عمرها، وكأنه يحيا بموتها ، فإن المفارقة تكمن في صنع الإنسان لأدوات يرى فيها استهلاكا لحياته، إنها إحدى المؤشرات على عبثية هذا العالم ؟؟ ( هل اعتقدت أن تكون حياتك أحجية ساذجة يرويها الصبيان بتفاخر ) وتستمر معاناة ذات الحالة السيزيفية عبر شرخ آخر من شروخ الفقد والحرمان والتعاسة : حركية الزمن وثبات الأمكنة مما سيفضي بها إلى ولوج فضاء التأمل الذاتي بناء على حركية الفكر التي تقود سير أو تحولات الذات : ( إذا كان الزمان يأبى الثبات فالأمكنة تأبى الحركة) ، حيث ستكشف الذات عن شرخ آخر لمعاناتها المتمثل في اضطراب مشاعرها لعجز الواقع عن تلبيتها، و ضبابية أفكارها الجريئة التي لم تجد لها الأجوبة الشافية، وهنا ستقف الذات على لوحة عبث نزوات الزمن بإطارها المادي، تآكلت بفعل الزمن الذي يأبى الثبات ، تنظر إليها في إشفاق، والنظر هنا ــ أو الفكر ـ تؤطره أبعاد ثقافية واجتماعية ومعرفية لا نظرة العين الجارحة ، لأن هذا معطى طبعي ، إنها نظرة الفكر تجول في أبعاد صورة الفقيد التي لم تكن سوى صورة الذات المفقودة ، باعتبارها تعيش حالة من الفقد والحرمان ، (كانت اللوحة صورة الفقيد.. الجاذبية عنيفة اقتادتني إلى تأملها بشغف كأني لا أعرف صاحبها .. ) الشيء الذي جعل مشاعر الإشفاق والحسرة تنتابها لإحساسها بعلاقة خفية تشدها إليها، وكأنها عثرت على عالمها المفقود مما دفعها إلى تأمل ( ذاتي بالطبع ) عميق رحل بها بعيدا عن عالم الواقع من حولها (أنظر في الصورة طويلاً و أرحل بعيدا بعيدا عني ( إلي )إذ أنسى العالم من حولي وأنسى كثيراً مما ظننت أني لا أنساه ) لتستفيق ـ مرة ثانية ـ على حقيقة الصورة، والتي لم تكن سوى صورتها ( لكنني أعود لأفيق فإذا بالصورة لم تكن إلا صورتي أنا ) وهنا نلفي الأنا التي انتهى بها الخطاب هي الأنا التي استهل بها . دورة مغلقة للحياة ، تعاقب آخر للشروق والغروب وتستمر المعاناة و المكابدة، وتستمر الحركة السيزيفية يحركها خيوطها في خفاء بهلواني يتماهى بين الشوق والهم و الزمن و الفقد الحرمان.[c1]عود على بدء :[/c]لذا نلاحظ بأن النهاية بداية محتملة و البداية نهاية محتملة..فالوضعية النهائية :(فإذا بالصورة لم تكن إلا صورتي أنا .. ) . الوضعية البدئية : ( أنا من هده الشوق إلي).إنها محنة ذات الانتماء العربية في علاقتها بذاتها ومستقبلها (وجودها ـ وضعها ـ أحلامها ـ تطلعاتها ـ مستقبلها.. ) وبماضيها ( تراثها ـ هويتها ـ صالتها ـ كينونتها ..) وفي علاقتها بالآخر (تخلفها ـ جهلها ودونيتها ـ هزائمها المعنوية والمادية ...) ..إنها ( أنا) بحجم الكل.[c1] باحث و ناقد مغربي
|
ثقافة
شروخ سيزيفية ..في قراءة قصة الغروب للأديب فيصل الزوايدي
أخبار متعلقة