مما لا شك فيه أن المرحلة التي انبثقت فيها الدعوة إلى قصيدة النثر كانت مرحلةً محتدمة بالقلق والرفض والعبثية، موحية بانقلاب في كثير من المفاهيم و المسلمات السابقة ، فبقدر ما كانت الهوة سحيقة بين الشعر والنثر الفني من الناحية النظرية في الموروث النقدي ، أصحبت ضيقة جداً في العهود المتأخرة ، حتى أن النظريات النقدية الحديثة تحاول في بعض مفاهيمها الجديدة إزالة الحواجز بين الصنّاعتين ، فإذا الشعر نثر إذا كان نظماً وإذا النثر شعر إذا كان مشبعاً بالصور مثقلاً بالرؤى الشفافة محملاً على أجنحة الألفاظ ذات الخصوصيات الشعرية، و يبدو أن هذا الوعي النقدي، مدخل مناسب للحديث عن الموسيقى وعناصر الإيقاع في قصيدة النثر، فهو بالإضافة إلى أنه لم يجعل الشعرية تتحقق بتحقق الوزن ولا غيابه متعلقاً بغيابها - نقرأ فيه تلخيصاً موجزاً لرؤية النظرية النقدية العربية للشعر وامتداداً لآراء الجاحظ والجرجاني وابن طباطبا، الذين لم يجعلوا الوزن والقافية شرطاً أساسياً من شروط الشعر، بل إنهم فضلوا عناصر أخرى غير الوزن والقافية - قادرة على ضمان تحقيق شعرية النص. إذن .. هناك اتفاق نقدي قديم حديث على أن الشعر يمكن أن يوجد خارج الأوزان والقوافي، لأن الشعرية تتحقق وتتكامل في اللغة وليس في أي عنصر خارجي، ولعل هذا الوعي النقدي المبكر هو الذي دفع الجاحظ للحكم على صاحب هذين البيتين أنه لم يقل شعراً قط:[c1] لا تحسبنَ الموت موت البلى[/c] فإنما الموت سؤال الرجال كلاهما موت ولكنَ ذا أفظع من ذاك لذل السؤال الأبيات، كما تبدو، حسنة الألفاظ شريفة المعنى مستقيمة الوزن، وعلى الرغم من ذلك فالجاحظ، يخرج هذين البيتين من دائرة الشعر، فإذا كان الوزن والقافية هما الشرط الأساسي لتحقق الشعرية، ما كان الجاحظ يقف هذا الموقف، مما يعني أن معايير الشعرية عند الجاحظ وغيره من النقاد الذين وضعوا أسس النظرية النقدية العربية عبارة عن منظومة متكاملة، لا يشكل الوزن فيها إلا جزءاً ضمن مجموعة أجزاء لها أهمية بالغة في تحقيق الشعرية، على هذا النحو تراجع الوزن باعتباره القضية العتيدة والعائق الهلامي الذي لازم الشعر قروناً طويلة، وبناءً على هذا الإحساس أصبح الوزن هو المستهدف في كل عملية تجديد أو كل حداثة، تراجع في ظل التأكيد على اللغة الشعرية - الخيال، الصورة - التكثيف - الرمز، وما آلت إليه آليات الشعرية المعاصرة، وتلمساً لطريق الخلاص وتطلعاً للأنموذج المتوسم ورغبة في الوثوب إلى ما وراء الأسوار تلقف الشعراء الشباب في العراق ولبنان قصيدة النثر وراحوا يكتبون على طريقتها ويدافعون عنها، بيد أن فريقاً من النقاد العرب وقف موقفاً إما رافضاً انتماء هذا النوع إلى الشعر أو حذراً مترددا، بل إن بعضهم وصل حد الاعتقاد بأن لا جدوى من أي جهد في هذا المجال(25)، فنازك الملائكة، ترفض أن تسمي قصيدة النثر شعراً، فهي لا تتصور خلو الشعر من الوزن، ذلك أنها تنطلق من مسلمات نظرية وعلمية تقيس على أساسها الشعر(26)، فنازك الملائكة تجعل من الوزن محوراً أساسياً للشعر متجاوزة بقصد أو بدون قصد شعرية العناصر الأخرى، فإذا كان الأمر على ما تطرحه متعلقاً بالوزن، فاعتقد أن موضوع الوزن أمر قد انتهى النقد العربي قديماً وحديثاً من معالجته، بقي أن نناقش مسألة أن قصيدة النثر نوع تم استيراده من الغرب وأن قبولها والتعاطي معها مسخ لهوية وخصوصية الشعر العربي فما صحة هذا الزعم ؟ من البداهة أن نقرر، كما سبقت الإشارة، أن مسألة المثاقفة والتأثير والتأثر من خلال موجات الاحتكاك الثقافي، واقع لا يمكن إنكاره، ليس فيما يتعلق بقصيدة النثر حسب، بل منذ زمن بعيد، قد يعود إلى بداية انفتاح الحضارة العربية على حضارات الشعوب الأخرى وخصوصاً الفرس والروم، وربما كان شعر الرباعيات والبند وشعر الموشحات أبرز شواهد هذا الاحتكاك والتأثر، وفي المقابل، نجد الأدب الغربي لا يخفي تأثره بالأدب والثقافة العربية، ولعل الكوميديا الإلهية لـ ( دانتي ) تشي بتأثرها الواضح بحادثة الإسراء وبـ ( الفتوحات المكية ) لابن عربي و( رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، هذا فيما يتعلق بالبعد التاريخي للمثاقفة بين الأدب العربي وآداب الشعوب الأخرى .أما في العصر الحديث فأشكال تأثر الأدب العربي بالأدب الغربي كثيرة ومتنوعة، فهي إذا لم تكن على مستوى الشكل فهي على مستوى التقنية واللغة، فتقنية ( القناع والرمز والأسطورة ) في الشعر العربي المعاصر آليات دخلت على الشعر العربي نتيجة التأثر بالشعر الغربي وهي حاضرة في الشعر العربي، ومع ذلك لم يعترض أو يرفض أحد من النقاد قصيدة القناع - أو القصيدة التي تتكئ على الرموز الأسطورية، بحجة أن هذه التقنيات قادمة من الغرب، بل إن النقد العربي اعتبرها من فونيمات القصيدة المعاصرة التي من شأنها أن تحقق للقصيدة قدراً أكبر من الشعرية، فالبياتي يرى أن القصيدة العربية بدون هذه التقنيات تجوع وتعرى وتتحول إلى جثة هامدة، فضلاً عن أن الشعر العربي الحديث تمثل كل مذاهب الأدب الغربي، كلاسيكية - ورومانسية - وواقعية - وسريالية - ورمزية - ودادائية، وكل هذه المذاهب جاءت من الغرب محملة بفلسفة الغرب وثقافته، ومع ذلك لم نجد أحداً رفض أو اعترض، فكيف عندما تعلق الأمر بقصيدة النثر حدث هذا الرفض والانتصار للقصيدة العربية وخصوصيتها ؟ ثم هل الوزن والانتظام العروضي الصارم في القصيدة العربية هو عنوان هويتنا وخصوصيتنا ؟. أعتقد أن الشاعر العربي قادر على تأكيد هويته وخصوصيته من خلال الموقف والرؤيا والمعالجة، أكثر من أي وسيلة أخرى جامدة، هذا بالإضافة إلى أنه يجب علينا أن نقرر أن الشاعر كائن يطمح أن لا يقف أمام إبداعه سور أو حاجز وأن النص الإبداعي شعراً كان أم نثراً يفترض أن يكون إنسانيَ الهوية، ينفتح على كل هذا العالم، ولا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية إلا بالتحرر من بعض القيود، ولا شك أن الانتظام الوزني كان أكثر القيود إعاقة لعولمة الشعر العربي، هذا ما أكده كثير من المترجمين الذين تصدوا لنقل بعض نصوص الشعر العربي إلى بعض لغات العالم الأخرى، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، إذا كانت قصيدة النثر قد تجاوزت مسألة الوزن إلا أنها ضمنت لنفسها بنية إيقاعية تحقق لها قدراً من الموسيقى ذات صلة بجوهر القصيدة، هذه الموسيقى المنبعثة من خصوصية اللغة ذاتها، وهذا يعني أن قصيدة النثر توافرت على قدر من الموسيقى من خلال تنوع بؤر الإيقاع والنبر والتنغيم خارج إطار الوزن العروضي، فالإيقاع هو عبارة عن ترديد وتناوب متناسق للمقاطع الصوتية يحسه الشاعر بفطرته إحساساً غريزياً ويتجلى في قصيدة النثر بأشكال عدة :ثنائية التوازي والتكرار : تعمل هذه الثنائية بشكل متناغم ومتناسق محدثة نبرات إيقاعية تتماهى مع عناصر الإيقاع الأخرى في منظومة نغمية لتشكل موسيقى قصيدة النثر. أ- التوازي: مقوم من مقومات الإيقاع في قصيدة النثر يسير جنباً إلى جنب مع التكرار لتحقيق قدر من الإيقاع المتنوع وهو على أشكال :[c1] - توازي اللفظ .[/c] - توازي الجملة . - توازي النحو .1 - التوازي اللفظي : يعد التوازي اللفظي ذا قيمة إيقاعية أخاذة، تضفي على القصيدة إشعاعات نغمية هادئة، ونظراً لما تتسم به قصيدة النثر من السردية في أغلب نصوصها، فإننا لن نستطيع إيراد النصوص كاملة، وسنكتفي بأخذ مقاطع استشهادية لكل ظاهرة نتعرض لمعالجتها : [c1].. هائماً كروح قديس، كمجنون[/c] وتسخر مني السماء المرتفعة، الشاسعة، القاصية فما دمون غير حلم وما عنيزة غير طيف في هذا المقطع يبدو جلياً الأثر الإيقاعي الذي أحدثته آلية التوازي منفردة حيناً ومشتركة مع آلية التكرار حيناً آخر، ففي السطر الأول : ينبعث إيقاع التوازي من خلال لفظتي : ( قديس ) و( مجنون )، وهو تواز غير تام حيث تغاير مورفيم الياء ومورفيم الميم . ثم يأتي التوازي اللفظي في السطر الثاني من خلال لفظتي (الشاسعة) و( القاصية )، ومع أنه تواز غير تام أيضاً، إلا أن إيقاعه يختلف عن إيقاع التوازي الأول لانسيابية الإيقاع المهموس المنبعث من الألف المفتوح ما قبلها ( شا ) و( قا ) بوصفها صوتاً زمنياً يمكن التحكم في مده، ومن ثمَ يأتي الإيقاع في السطر الثالث والرابع .. الناتج عن اشتراك آليتي ( التوازي والتكرار) في قوله : فمادمون غير حلم وما عنيزة غير طيف ليضيف دفقة إيقاعية شكلت بتكررها نوعاً من الإيقاع المنتظم، فإيقاع التوازي الناقص بين لفظتي ( حلم / طيف) تماهى مع إيقاع التكرار الأسلوبي : ( فما دمون غير حلم / وما عنيزة غير طيف )، لتكوين موسيقى النص الخاصة. وفي قصيدة أخرى، نحس بوقع التوازي اللفظي واضحاً وممتزجاً بالتكرار، موزعاً توزيعاً لحنياً يضفي على المقطع الشعري مسحة موسيقية منتظمة: وفي قصيدة أخرى :[c1] يتجلى إيقاع التوازي اللفظي بشكل أكثر فاعلية:[/c] أحلم بدبابتي الأليفة المدافع، الراجمات، الهاونات تأمل الإيقاع الناجم عن توازي لفظتي ( الراجمات ) و(الهاونات ) كيف أعطى السطر دفقاً إيقاعياً هامساً يشعر المتلقي إزاءه كأنه قادم من وراء الأفق، دلالة على البعد، على عكس إيحاء السطر الأول ( أحلم بدباتي الأليفة ) الذي يشي بالقرب والحميمية والألفة . كما نقرأ أيضاً :[c1] في الطريق إلى بغداد ..[/c] يولد الشعر والشعراء تورق الآن كل الشوارع كل البيوت المحطات والأغنيات البنايات والأمنيات المطارات واللافتات المضيئة لا شك أن آلية التوازي اللفظي هنا تمنح النص موسيقى هادئة تنبعث من خلال انسياب إيقاع صوت الألف المفتوح ما قبلها، التي تتراسل على طول الستة الأسطر، لتستقر على تاء مكسورة، تتلاحق تلاحق القافية التقليدية. 2 - توازي الجملة : لا شك أن إيقاع توازي الجملة أكبر مساحة من إيقاع توازي اللفظ، فالوحدات النغمية في الجملة أكثر منها في اللفظة، حيث أن الكلمات المتوازية داخل الأسطر قد تكون كثيرة وموزعة على وفق تشكيلها الزماني والمكاني : يجففون العناكب على حواسي[c1] ويلطخون المنزل[/c] بأعشاش ثرثرة حبلى بالصدأ تتجلى هنا آلية التوازي من خلال جملتي ( يجففون) و( يلطخون ) فالشاعرة تمكنت من صنع الإيقاع من خلال التوازي، ثم من خلال ضمير الفاعل ( الواو ) الذي أعطى للجملتين المتوازيتين إيقاعاً إضافياً داخل التوازي نفسه. .. ولنقرأ هذا النص :[c1] ليس من أبناء إيثاكا كل من لم يهطل عليه المطر[/c] أو يبلله المطر من لم ينازل البحر بالحبال أو يقارع الملمات بالعصا إنهم يصنعون الخرائط يعالجون الشراع إنهم يباركون العاصفة والخطر لأنهم لا يأبهون بما يتوعدهم من خطر فالإيقاع الناجم عن توازي الجملة في هذا النص، يتشكل داخل الأسطر محدثاً نغماً موسيقياً، يطول مرة ويقصر أخرى، على وفق امتداد الوحدات النغمية في الجملة ذاتها، فالإيقاع المنبعث من توازي الجملتين : ( يهطل عليه المطر) س/1 و( يبلله المطر) س/2، متناغم مع إيقاع الـتوازي في الجملتين: ( ينازل البحر بالحبال) س/3 و( يقارع الملمات بالعصا) س/4، ثم يتسع إيقاع التوازي أفقياً في الأسطر الأخرى، من خلال : ( يصنعون الخرائط / يعالجون الشراع / يباركون العاصفة ) في تواصل حميم مع إيقاع التوازي في الأسطر الأولى، ثم ينكسر هذا الإيقاع، فجأة، في السطر الأخير محدثاً كسر أفق توقع القارئ، من خلال الفجوة الإيقاعية، التي من شأنها توسيع مسافة التوتر لدى القارئ وفي نص آخر نقرأ : ما كانت الدنيا لتلعن فلماذا نلعنها ؟ ما كانت الدنيا لتضرب فلمَ نهيل عليها بالطرق ؟ ما كانت الدنيا لتؤكل فلمَ نحاول التهامها ؟ ينبعث الإيقاع هنا من تآزر آليتي التوازي والتكرار، إذ يأتي التوازي في ثلاث جمل :( لتلعن / لتضرب / لتؤكل) متماشجاً مع آلية التكرار في الأسطر الثلاثة، ما أعطى النص لمسة موسيقية خاصة 3 - التوازي النحوي : هو نوع من التوازي لا يعتمد الإيقاع بقدر ما يعتمد التركيب النحوي الذي بدوره يترك صداه الإيقاعي الخاص، فالجمل المتوازية نحوياً، تلتزم نسقاً نحوياً واحداً من خلال تسلسل العوامل النحوية : حين تكون ثمة وردة .. ثمة سنبلة .. ثمة إقحوانة ساحرة ثمة بلبل صادح في هذا العالم أو تكفي لإثارة ضحكة في أعماقي ؟ ثمة جحيم ينتظر الإنسان نلاحظ أن الإيقاع المنبعث من توازي الجملة الخبرية، وصفة الخبر في السطر الثالث : ( ثمة اقحوانة ساحرة) توازن إيقاعياً مع الجملة الخبرية وصفة الخبر في السطر الرابع : ( ثمة بلبل صادح )، مما خلق إيقاعاً منتظماً للسطرين وشكل امتداداً انسيابياً لإيقاع التوازي في السطرين الأول والثاني :( ثمة وردة ) و( ثمة سنبلة)، ثم ينكسر هذا الإيقاع الانسيابي فجأةً، من خلال الجملة الاستفهامية في السطرين الخامس والسادس : أو يكفي لإثارة ضحكة في أعماقي محدثاً فجوةً إيقاعية من شأنها أن توسع مسافة التوتر بين النص والمتلقي وتحقق قدراً من الشعرية بحسب دكتور / كمال أبو ديب، ثم يعود النص لإيقاعه السابق من خلال إيقاع التوازي النحوي في السطر السابع : ( ثمة جحيم ينتظر الإنسان )، فمغادرة الإيقاع والعودة إليه، يمنح النص تنوعاً نغمياً يحسب لموسيقاه . ومن التوازي النحوي أيضاً : - جنادب على العشب، أصابع على البيانو - أصابع على البيانو - جنادب على العشب التوازي النحوي هنا جاء تاماً من خلال أسلوب قلب المعاني، الذي جعل إيقاع التوازي يتماهى مع إيقاع التكرار في السطرين، مما خلق إيقاعاً أكثر قوة. هكذا يتجلى إيقاع آلية التوازي في قصيدة النثر، بيد أننا نستطيع أن نلاحظ مما سبق أن إيقاع التوازي بأنواعه الثلاثة : ( اللفظي - الجملي - النحوي ) يتنوع طولاً وقصراً، وقوة وضعفاً، بحسب نوعية التوازي وامتداد الوحدات النغمية في كل نوع، فإيقاع التوازي اللفظي أقل طولاً من توازي الجملة، بينما يكون التوازي النحوي أطول من توازي الجملة، فضلاً عن إيقاعات الأصوات المهموسة والمجهورة والأصوات الزمانية التي تقع داخل بنية التوازي نفسه، ما يجعل الإيقاع أكثر تنوعاً وحيوية. ب- التــكرار: قد عرفنا ما للتكرار من قيمة إيقاعية ومعنوية في القصيدة التقليدية بنظامها العروضي الصارم، بيد أننا هنا سنتحسس التكرار وتجلياته في قصيدة النثر وما يؤديه من إيقاع يعطي النص لمسةً موسيقيةً منتظمة تعوضه عن فقدان الوزن، فالتكرار في قصيدة النثر نوعان: 1 - تكرار اللفظ : ويعني أن لفظاً ما يتضمن وحدات نغمية معينة، يعمد الشاعر إلى تكراره بهدف تحقيق نوع من الإيقاع الموحد للنص : الرجل .. ذو الأنياب الخشبية ذو الساق المفلوجة ذو الأنف المعقوف ذو الكف اليابس ذو الوجه الأمرد .. ذو الرأس الجوزة فالشاعر هنا كرر لفظ ( ذو ) سبع مرات، مما جعل الأسطر السبعة تبتدئ بإيقاع منتظم موحد، لكن ما جعل إيقاع التكرار أكثر فاعلية، اشتراكه مع إيقاع التوازي في بعض الأسطر، فالإيقاع المنبعث من تكرار اللفظ، بوحدته النغمية الثابتة، تآلف مع الإيقاع المنبعث من توازي الجملة في الأربعة الأسطر الأولى، بوحداتها النغمية المتنوعة، لتشكيل بنية النص الموسيقية . لديه ينسج البنفسج أغطيةً للأطفال لديه عناقيد المشاوير اللاهثة لديه أمومة كالبستان وشعب من إنسان لديه ينطق الحرير انتفاضة المواقيد لديه لؤلؤةً وعصا ومسائل لتسوية الضحى فهذا الإيقاع الهامس المتوالي المنبعث من تكرار لفظ ( لديه ) قادر على تحقيق انتظام إيقاعي يعمل على ضمان استمرارية التواصل بين النص والمتلقي، من خلال خيط نغمي هادئ يؤطر النص دلالياً وموسيقياً، فموسيقى النص تتمحور حول بؤرة نغمية واحدة ومنتظمة تشترك فيها، وتنطلق منها جميع أسطر النص الشعرية، متمثلة في إيقاع الوحدات النغمية للفظ ( لديه)، العامل المشترك بين كل الأسطر، ثم تأمل كيف يستثمر الشاعر القيمة الدلالية والإيقاعية لتقنية التكرار في هذا النص: قبل أن تخمد جذوة إيماني قبل أن يسفح دم فجري قبل أن يمس الفن نقاء صباي قبل أن يتحرك غضب الغيرة فيَ قبل أن تتخثر دماء العشق في شراييني قبل أن يطوق الاختناق عنق معرفتي قبل أن تقطع سكينة النسيان حبل وجودي قبل أن يتهرأ سفر أمنياتي[c1]كنت نبعَ الأبدية وملاذَ المعرفة [/c]للتكرار في هذا المقطع وظيفتان، إحداهما دلالية تؤكد من خلال تكرار لفظتي ( قبل أن ) عدداً من الدلالات التي أراد الشاعر تجذيرها في نفس المتلقي، على وفق أثرها النفسي لدى الشاعر ذاته، ليشتركا معاً في تصور موضوعي واحد، والأخرى إيقاعية تضفي على النص شكلاً إيقاعياً خاصاً، من خلال الوحدات النغمية المنتظمة الموحدة في بداية كل سطر، فما حققه تكرار لفظ ( لديه) على مستوى الإيقاع في النص السابق، يحققه تكرار (قبل أن) في هذا النص، إلا أن مساحة الوحدات النغمية في ( قبل أن ) أكبر منها في ( لديه )، فضلاً عن تقارب إيقاع الأفعال الواقعة بعد ( أن )، ما يجعل موسيقى النص أكثر تناغماً. 2 - تكرار الجملة: كما أن لتكرار اللفظ قيمة معنوية وإيقاعية، فإن لتكرار الجملة معانيَ وإيقاعات يحاول الشاعر من خلالها أن يؤكد على دلالات ما وتثبيتها في ذهن المتلقي، على وفق أهميتها وأثرها في نفس الشاعر : أخذت عن النهر غيابه، قلت : [c1] إذا اعترتني خضرة سأدون مائي وأقيس جلال العشب وسيادة النور،[/c] لكنني لم أجد سحباً على الورق أخذت عن النهر غربته، قلت : إذا أصابني الحب سأحرر أغنيتي أرى النساء يدخرن أنوثةً للصباح وللظهيرة الكلمات وللمساء تروض الفحول لكنني لم أجد عاشقاً في الطريق أخذت عن النهر غبطته، قلت : إذا صعقتني نشوة سأطير بعيداً لم يقف النهر، لكنني .. شطبت الغروب عن الشجر فالإيقاع الناجم عن تكرار جملة : ( أخذت عن النهر) ثلاث مرات، له قيمته في التشكيل الإيقاعي للنص، إذ يتداخل مع بقية عناصر البنية الإيقاعية الأخرى، ما يخلق تنوعاً نغمياً ملائماً لحركة القصيدة، ويخلق قدراً من الموسيقى الملائمة لها. وفي الاتجاه نفسه نقرأ : الذي يسأل عن قهوتي .. هو الذي سرق فنجاني الذي يسأل عن لحيتي... الذي يسأل .... استعار أدوات حلاقتي والذي يسأل عن .... ويسأل عن ..... هم وراء ما... وما .... لا شك أن أبرز ما يثير المتلقي ويلفت انتباهه، هو أن هذا المقطع ينتهي دلالياً وإيقاعياً بمثل ما ابتدأ به، فعلى المستوى الدلالي يأتي السطر الأول كامل الدلالة في حين جاء السطر الأخير مفتوح الدلالة، من خلال تقنية الفراغ ( النقط ) إحدى تقنيات القصيدة المعاصرة، بهدف ترك مساحة لاشتراك المتلقي في عملية البث والتأويل، أما على المستوى الإيقاعي، فإن الإيقاع الذي تحمله فونيمات جملة ( الذي يسأل عن ) في السطر الأول، يتكرر مرة أخرى في السطر الأخير من خلال تكرار الجملة نفسها، وبهذا يكون المقطع واقعاً بين صدىً إيقاعي واحد، وبدرجة واحدة، من حيث الطول والقوة، ثم يتخلل هذا الصدى الإيقاعي أصداء أخرى أقل طولاً وقوةً من الإيقاع الأول، وذلك من خلال إيقاعات التوازي والتكرار في الأسطر: الثاني والثالث والرابع، مما خلق تنوعاً في الإيقاع يمكن أن يكون بديلاً حداثياً عن إيقاع الوزن .
|
ثقافة
قصيدة النثـــــــر.. الخصوصيــة والانفتاح
أخبار متعلقة