وطنيات فريد الأطرش 2-2
[c1]تمهيد [/c] أن يصدر الفن عن رؤية ، فمعنى ذلك امتلاكه لمكونات وجوده وأسباب صموده ، أمام تغيرات الزمان والمكان ، ليكون إضافة نوعية يحتفي بها التراث الانساني ، وتستقي منه الأجيال ، قيماً جمالية وانسانية ، لما له من كينونة فنية متجددة...ولعل في ما قدمه الموسيقار فريد الأطرش من أعمال في رحلة عطائه الابداعي، وما حظي به من لقب (لحن الخلود)، واستلهام الجماهير لتراثه عاطفياً وفنياً، دليلاً على ماتمنحه الرؤية ، من عمق وثراء الدلالة ، لمفردات العمل الابداعي ، في إطاره العام، لينال بذلك، ديمومة جمالية وفكرية ، تتخطى به، اشكالية الزمان والمكان...دون مغالاة ، نستطيع القول ، إن وطنيات فريد الأطرش ، إنما هي في الاساس عناوين رئيسية، تختزل وتبرز رؤيته العروبية ، في ثلاث قضايا مصيرية هي:[c1]المقاومة والتحرير من الاستعمار [/c]تناولت اغنيات فريد الوطنية ، دعوة الجهاد والتضحية ، في سبيل حرية الأوطان ، واتسمت بإستثارة مشاعر الحماس والإرادة ، وبعاطفة الفداء، في سبيل نيل الكرامة والحرية:-[c1]شرف للموت أن نطعمه ****** أنفساً جبارة تأبى الهوانا[/c] الفترة الممتدة من خمسينيات القرن الماضي ، إلى اواخر ستينياته، تعد العصر الذهبي ، لحركات التحرر العربي ، حيث شهدت البلاد العربية ، تصاعد وتيرة المقاومة ، والثورة على الاستعمار ، ونيل الاستقلال بعد كفاح وتضحيات جسام ، وكان لصوت فريد ولألحانه ، اسهاماً واضحاً، في تأصيل تلك المعاني، ومن اغنياته قصيدة(البعث) التي تغنى بها " في الحفل الساهر الكبير الذي أقيم احتفالاً بتوقيع اتفاقية الجلاء بميدان التحرير مساء يوم الأربعاء 20/10/ 1954م... وقد صفق له قواد الثورة كثيراً خصوصاً عندما أختتم اغنيته قائلاً:-[c1]بني مصر هذا الصباح لنا ***** تفجر بين الربى والسناونهتف قد راح ليل العبيد ***** فدمنا لمصر الضياء الجديد(1( [/c]وفي عام 1956م إثر العدوان الثلاثي على مصر ، وما أظهرته مدينة بورسعيد ، من صمود وبطولة ، قدم فريد نشيد (بورسعيد) .. واتخذ من المارش العسكري ، لما فيه من قوة ، وإثارة للمشاعر الوطنية، والحماس ، منهجاً وأساساً لتركيب وبناء الجملة الموسيقية :-[c1]بورسعيد بورسعيد ***** قبلة الشعب العنيدأنت قبر للغزاة ***** لعنة على الطغاةدعوة إلى الحياة ***** تعلن الفجر الجديد[/c]اما عن قضية فلسطين ، فقد احتلت موقع الصدارة في وطنياته، إذ تغنى بها في نشيد (المارد العربي) في حفل عيد الثورة المصرية عام 1962م :[c1]يافلسطين يا شعب مجاهد ***** جيشك حاضر بالملايينما بقاش جرح في جسم المارد ***** غيرك إنت بيدمي سنين زي ما حررنا الجزائر ***** مش حنسيبك يا فلسطين[/c]وأثناء حرب الاستنزاف ، قدم فريد الاطرش رائعة الشاعر ( بشارة الخوري ) قصيدة (وردة من دمنا) التي احتوت الكثير من المعاني العروبية والفداء، والاعتزاز و واستطاع فريد بقدرة عالية ، تصوير تلك المعاني بإبداع ، أكان من خلال الاداء الصوتي، أو من خلال اللحن ، والقصيدة بنيت على أساس وطني صوب الاصرار على تحرير فلسطين:-[c1]ياجهاداً صفق المجد له ***** لبس الغار عليه الأرجواناشرف باهت فلسطين به ***** وبناء للمعالي لا يداناإن جرحاً سال من جبهتها ***** لثمته بخشوع شفتانا[/c]وقبل ذلك ، وإثر هزيمة حزيران 1967م ، وتداعياتها المؤلمة على الواقع العربي، وما أحدثته من انكسار، وما سطرته من حزن وذهول " انتفض الموسيقار الراحل ، وطلب مؤلف الأغاني عبد الجليل وهبه ، وجلس يشرح مرة أخرى ، وأنه لازم نحارب لازم نعمل حاجة، وإن العرب إذا كانوا قد خسروا معركة ، فليس هذا كافياً أن نستسلم للكلاب "...(2)أجل ، أيقن فريد بضرورة أن يؤدي الفن رسالته وفي هذه اللحظة بالذات، وأن عليه مسؤولية ، إعادة الثقة واستدعاء العزائم ، بزرع الأمل ، واستنهاض الهمم، وإزاحة الانكسار ، بموعد الانتصار ، في جولة أخرى ، وكان نشيد (يوم الفداء) من الروعة والقوة، ولعله النشيد الأعظم أثراً ، في تبديد أحزان الهزيمة ، من أجل الإعداد لمعركة أخرى ، أما من حيث اللحن فقد قام على المارش:-[c1]شعبنا يوم الفداء ****** فعله يسبق قولهلا تقل ضاع الرجاء ***** إن للباطل جوله[/c]*****[c1]في طريق النصر ***** لن نحني الجبينالن يهون العزم ***** فينا لن يهونا[/c]بل إن فريد ، لم يكتف بالغناء والتلحين فقط، وإنما أصر على تصوير النشيد في تلفزيون لبنان " وأرسل... نسخة لتلفزيون مصر .. وقام هو بتسليم النسخ إلى السفارات ... وهدأ فريد ، ودفع كافة التكاليف من جيبه الخاص .. وقال: ده أقل شيء أعمله نحو بلدي"... (3)وعلى الرغم من إيمانه العظيم ، بوجوب تحرير البلاد العربية ، ونيل كرامتها ، إلا إن ذلك لم يكن إلا خطوة أولى، صوب الغاية الكبرى ، ألا وهي، وحدة الوطن العربي ، حيث كانت هي مقصده الأسنى.[c1]بناء الأوطان ، والنهضة العربية[/c]]:أكد الموسيقار (فريد الاطرش) على الأخذ بأسباب الرقي والتقدم في معظم وطنياته ، فقوة الوطن ، إنما تكمن في قوة شعبه ، ولا قوة لشعب متخلف لا يعي عوامل تقدمه ، لذلك نراه في نشيد (رجال الغد) يدعو إلى العلم ، والبحث عن المعرفة ، كي يسمو الوطن ، وترتفع هامته معانقة النجوم المضيئة:-[c1]دعا الفجر هيا رجال الغد ***** وهبوا فإنا على موعدعلى موعد فوق هام السحاب ***** لنبلغ فيه بيوت النجومونجعلها غنوة للشباب ***** وننثر فيها الهدى والعلومعلى موعد في حنايا الصدور ***** أمام الضمائر المرهفةنهز الضفاف شعاعاً ونور ***** تألق في العلم والمعرفة[/c]كما شاركت أغاني فريد ، في عملية التنمية والبناء، ومنها مثلاً أغنية (يا أسطى سيد) التي شارك بها في الحفل الغنائي ، بمناسبة بدء بناء (السد العالي) عام 1960م ، في منطقة أسوان .. وأيضاً في نشيد (يا بلادي ) نجد دعوته لبناء الأوطان :-[c1] للأوطان للأوطان نبني ونعلي البنيان[/c]كما تطرقت أعماله الوطنية لقضية مشاركة المرأة في عملية البناء، والتحول الاجتماعي والاقتصادي ، صوب خلق مجتمع جديد، فقدم نشيد (لست في الميدان وحدك) الذي تغنت به المطربة فائزة أحمد :-[c1]أختك الحرة صارت ***** وعلى دربك سارت إنها تحفظ عهدك ***** لست في الميدان وحدك يا أخي هيا بنا نحمي حمانا ***** عن حمى الأوطان مسؤول كلانا[/c] [c1] وحدة الوطن العربي :[/c]ليس هنالك من فنان غنى وتغنى بالوحدة العربية كما غنى فريد الأطرش ولعل من أروع وأجمل ما غنى في الوحدة هذا المقطع من اغنية (حيوا البطل ):[c1]ياللا نهتف وننادي ***** ارض العروبة بلادياليوم هناها بطلها ***** والنصر على ايديه جلهادي بلادي ولا القا مثلها ***** لو لفيت الدنيا دي[/c]وليس هنالك - ايضا - من اغنية وطنية إلا وتغنى فريد فيها بوحدة العرب ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى ، وقد أوردنا بعضاً منها في مطلع هذا المقال ، ولكن نسوق أمثلة أخرى ، كأغنية (سنه وسنتين) التي غناها عام 1969م بمناسبة عودته إلى مصر بعد غيابه لسنوات عنها ، وفيها يغني لمصر ، ونيل مصر وشعبها، غير أنه أيضاً - لم يغفل عشقه المصيري ، وحلمه الأوحد بوحدة العرب : [c1]ناديت عالعرب **** وقلت أمه وحدهلقيتنا معاك **** كلنا يد وحدة[/c]وبرحيل الزعيم (جمال عبدالناصر) 1970م ، قدم فريد الأطرش لحناً من أروع وأعذب الألحان الوطنية، تغنى فيه بعاطفة مؤثرة وبوجدان عروبي صادق ، بهذا الزعيم الذي حاول تجسيد حلمه ، وحلم الأمة العربية، وتوقها الأزلي إلى الوحدة ، فكانت أغنية ( حبيبنا يا ناصر ) ومنها هذا المقطع ، الذي يعبر عن الوحدة العربية:-[c1] قلب الأمه العربيه ***** بلد النور والحريهإدعلها وردوا عليه ***** تحيا الامة العربيه[/c]وقبل ذلك وفي عام 1962م كان نشيد ( المارد العربي ) الذي تناول فيه ، اتساع حركة التحرر العربي ، ونمو الوعي القومي ، والسعي إلى تحقيق وحدة العرب:[c1]المارد العربي ***** في العالم العربيوطنه في كل مكان ***** في دجله في عمانفي مصر في لبنان ***** والمغرب العرب[/c]أما في عام 1961م فقد كانت أغنية(مبروك علجمهورية العربية ) التي تغنى فيها فريد بمرور ثلاث سنوات على قيام الجمهورية العربية المتحدة(مصر وسوريا) وفيها يشيد بالوحدة ، وما تعنيه من قوة وعزة:-[c1]من بعد ما تمت وحدتنا ***** واحنا ما تتقدر فرحتنادي الوحدة تزود قوتنا ***** والإيد عالإيد نصره قويه[/c]إن الحديث عن الجانب العروبي في حياة وفن (فريد الأطرش) شائق وذو دلالة ، وبحاجة إلى بحث علمي أعمق لنستخلص منه دلالات عروبية ، كادت اليوم أن تتوارى ، من واقعنا العربي ، بفعل مايعيشه من وهن وتمزق في ظل تراجع الوعي القومي ، وبروز التوجه القطري.. رحم الله فريداً، إذ كان مسكوناً بالعروبة ، فلم يدع شيئاً إلا وضمنه هذا الإيمان بالعروبة ، سواء بالكلمة المغناة ، أو بالنغم الصرف ، أو بالموقف والرأي ، وبذلك جسد الوعي القومي بصدق، وبوحي من رؤية عروبية خالصة، تجلت في فنه شكلاً ومضموناً، ليسهم بفنه في مراحل وتحولات ومعارك أمته، في فترة زخرت بالنضال، والتطلع إلى الحرية والوحدة؛ فكان ما قدمه من أغنيات، ومن موسيقى، لا يعد فقط سجلاً تاريخياً، لتلك الفترة، بل وأيضاً تأصيلاً للهوية العربية، وتأكيداً على وجودها، أمام نزعات التغريب، وأساليب الابتلاع، لينال بذلك حب الجماهير العربية من المحيط وحتى الخليج، خالعة عليه أصدق وأجمل الألقاب، ومنها (مطرب العروبة)، فهو من عاش ولهاً مفتوناً بحلم الوحدة العربية :[c1]أسأل الله يبلغني كل المقصود ***** وأشوف الأمة العربية من غير حدوديمشي العربي في أملاكه ببساط ممدود ***** لا نقوله وين أوراقك ولا رايح وين[/c] فما احوجنا إلى ذلك الوعي المؤمن بوحدة المصير، وبخاصة في ظل ظهور وتنامي عقلية تفكيكية، تهدف الارتداد بأمتنا، إلى أزمنة التشرذم من جاهلية، وملوك طوائف ، لتنتقي منها أسوأ مفاهيمها وسلوكياتها من تآمر وتناحر، ولتبرر - أيضاً - نزوعها القطري، وتغليبه على القومي، بمالها من فكر تكلسي توجسي، موغل في الذاتية... ولكننا ورغم كل مظاهر التراجع ، سنظل نتغنى ونحلم كما حلُم وتغنى فريد الأطرش بالوحدة العربية ، ونردد معه بإيمان لا يتزعزع :[c1]ياللا نهتف وننادي ***** أرض العروبة بلادي[/c] [c1]الهوامش [/c]:1- د. نبيل حنفي محمود : ما بين أهل الثورة وسلاطين الطرب، مجلة الهلال، القاهرة، يوليو 2002م، ص 227 .2- محمود مصطفى : إنها علاقة عمر، من كتاب (فريد الأطرش بين الفن والحياة)، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1982م، ص 142 .3- المرجع نفسه 143