خلت لعدة سنوات ،خاصة الاخيرة منها ، أن أصحاب المشاريع الفنية الطموحة قد انتهوا من حياتنا، خاصة بعد رحيل عدد من الفنانين الكبار عن هذه الحياة، أو بعد أن حالت السن المتقدمة التي وصل اليها بعض آخر دون مزيد من الابداع وتحمل مزيد من العناء الذي لم يعودوا قادرين عليه ، أوبعد ان جفت ينابيع الموهبة لدى بعض ثالث فاكتفوا بما سبق وقدموه رصيداً يشهد لهم بالمحاولة..الى أن التقيت به .. فوجدت فيه صاحب مشروع فني طموح .. ووجدته مثل كل أصحاب المشاريع الكبيرة مهموماً الى درجة الانصهار بتحقيق مشروعه الخاص الذي يحمل بصمته وامضاءه..إبداعة، وقلقه، وحبه للفن، ودأبه وتعبيره الدائم عن كل هذه الحالات، كلها تشير الى حالة فنان خلاق مبدع، والى صاحب مشروع موسيقي وفني يعمل عليه بدأب ومثابرة منذ سنوت تقترب من ربع القرن .* وقد ذكرني اصراره على تحقيق مشروعه باصحاب المشاريع الموسيقية والفنية الغنائية الكبرى الذين يؤمنون برسالة الفن الخالدة، وبالدور الذي تلعبة الموسيقى في ثقافة الشعوب والارتقاء بمستوى ذوق المتلقي.* وذكرني احساسه الفني الرفيع، وايمانه العميق بموهبته وقدراته الموسيقية التلحينية والغنائية، واخلاصة لفنه ولمشروعه الذي يؤمن به اشد الايمان ونذر نفسه وجهده له ذكرني بفنانين قبله- وان كان عددهم قليلاً- امتلكوا مشاريعاً مثل مشروعه وطموحات مثل طموحه. وهو يكرس حياته وفنه لتحقيق مشروعه مثلما حققوا مشاريعهم.* وككل أصحاب المشاريع الطموحة ، والمواقف النبيلة يرفض تقديم التنازلات من اي نوع حرصاً منه على فنه، ويأبي أن ينتقص منه احد مهما كانت الاغراءات، ويحاول بقدر مافي جهده وصبره على الصبر ان يقاوم الصعاب ، ويكابد الاحباط الذي يدفعه اليه آخرون او الظروف، لكي يتخلى عن مشروعه كما يرفض ان يكون مسماراً في خشب مهترىء لسفينة لايمكنها الصمود طويلاً وان بدا للبعض انها قادرة على الإبحار.* انه حالة فنية خاصة.. ومشروع طموح ، وهو يعرف هذا ويؤمن به، ويعمل من اجله ويعرف ايضا انه يسبح ضد التيار الفني السائد الذي يستسهل الفن والغناء . ويؤمن بان الفن رسالة وموقف ويدرك انه ككل أصحاب المشاريع الموسيقية الطموحة اختار الطريق الصعب.. ولكن الصحيح.* يدهشك باصراره رغم علمه انه يسير في هذا الطريق وحده، في وقت علمته تجربته خلال السنوات الماضية وتجارب سواه إن مشروعاً كالذي يعمل عليه ليس بالسهل ولا الطريق الذي اختاره بالممهد ، بل دونه عراقيل وصعوبات جمة..* وعلمته التجربة انه قد لايستطيع بمفرده تحقيق هذا المشروع الطموح . فالمشاريع الفنية من هذا النوع، والتي تهدف الى الرقي بمستوى الاغنية اليمنية وجملها الموسيقية واللحنية ونقلها الى طور ارقى مع الحفاظ على روحها واصالتها تحتاج الى امكانيات مادية وفنية كبيرة ، والى قوى بشرية مؤهلة ، وفوق ذلك مومنة باخلاص باهمية هذا المشروع وضرورته ،وكلها عوامل غير متاحة في الوقت الراهن، او انها تقدم لمن لايملك موهبة ولامشروعاً . كما ان المناخ العام لم يعد يستوعب المشاريع من هذا النوع خاصة في ظل غياب مشروع ثقافي وطني للنهوض العام.* ومع علمه بكل هذا فانه يملك طاقة عناد كبيرة بالرغم من طبعه الرقيق كفنان وانسان لكي يصل الى تحقيق مشروعه .* فنان مثقف في وقت ندر فيه الفنانون المثقفون . وفنان يعي الدور الذي اختاره بوعيه وإرادته ، في وقت قل فيه الفنانون الملتزمون. كما يعي حجم التضحيات التي عليه ان يقدمها وهي تضحيات يقدمها على حساب نفسه وراحته عن طيب خاطر، ولكنه حتماً يرفض ان تكون على حساب كرامته، او فنه ، او مشروعه..* قد يخطر في ذهن البعض ان هذا الفنان جاء في ظرف موات لمشروعه ولطموحه الفني - الموسيقي، وانه يستطيع تحقيقه بسهولة، او على الاقل دون صعوبات كثيرة.* وقد يكون مرد هذا الانطباع، ان فناننا المشار اليه يأتي على ارض مهدها له غيره من الفنانين الذي سبقوه من اصحاب المشاريع والطموحات الفنية مثله.امثال : خليل محمد خليل، سالم بامدهف، واحمد قاسم ، يحيى مكي، محمد مرشد ناجي، ومحمد سعد عبدالله، ومحمد عبده زيدي ، وسواهم ممن حملوا راية تجديد الاغنية اليمنية.* لكن سرعان مايكتشف المرء ان مثل هذا الانطباع خاطئ جداً، فجيل الرواد الذين اشرنا الى بعهضم جاء في مناخ عام مختلف . وتشكل بفضل وعي وطني وثقافي وفني راكمته الحركة الوطنية السياسية والثقافية والعامة التي كانت في اوج نهوضها والتي يقف على رأسها سياسيون ومثقفون وشعراء وفنانون واصحاب راي ، ولم تكن طموحاً ذاتياً بحتاً باصحابه بقدر ماكان ذلك الطموح ينتظم في المشروع الوطني الكبير. لذلك نجد ان المشاريع التجديدية الاولى للأغنية اليمنية والتي شهدتها عدن كان ميلادها في المنتديات الثقافية الوطنية التي كانت الحاضن الاول لها.* وكانت عدن نفسها تشهد نهوضاً اقتصادياً واجتماعياً، ومستوى عالٍ من تطور اشكال الحياة الاخرى.* وتهيأت فيها بؤرة لصناعة كل ماهو جديد على مستوى الشعر وعلى مستوى الاغنية، والصحافة والثقافة والفن بوجه عام.وقد شكل ذلك المناخ المتولد »الحاضن« لتلك المشاريع الفنية التي لم تتكون فجأة فوجود اذاعة عدن، والفرق الموسيقية التجديدية، والحفلات الموسيقية التي تلقى اقبالاً جماهيرياً ، والمنافسة الشريفة بين الفنانين ، وشركات الاسطوانات قد شكلت جميعها عوامل لانجاح تلك المشاريع التي جاءت تراكماً لخبرات وتجارب وموروث موسيقي وغنائي.لعل من سوء حظ ( فناننا) صاحب المشروع الطموح الذي لم اشر الى اسمه حتى الآن ان شيئاً من ذلك الذي اشرنا اليه لم يعد قائماً اليوم.* فاغلب الفنانين المجددين قد رحلوا عن هذه الدنيا.قليل منهم حقق مشروعه . والبعض مات دونه كمدا بعد ان رأى ماآلت اليه الامور خلال السنوات الاخيرة من عمره ، وكان حصاده النكران. ومآل فنه الذي افنى العمر فيه الاهمال والتجاهل!* ولاتوجد اليوم بكل أسف فرق موسيقية ولامؤسسات اكاديمية موسيقية، ولاتدخل التربية الموسيقية في المناهج الدراسية، ولاوجود لمسارح وقاعات للعروض وإقامة الحفلات الغنائية. وتراجع دور الاذاعة والتلفزيون في تسجيل الاغاني الجديدة، وفي مناخ كهذا توأد المشاريع الموسيقية ويقتل اصحاب تلك المشاريع او اصحاب المواهب.* في مساحة كهذه ماذا يملك الفنان المبدع..؟ كيف يستطيع ان يتحرك في هذه المساحة التي تضيق أمامه كل يوم لكي يحقق مشروعه الهادف الى رفع مستوى الأغنية اليمنية ومستوى تذوق الناس؟..* شخصياً يدهشني إصرار هذا الفنان على تحقيق مشروعه الموسيقي والفني على الرغم من كل هذه المعوقات. وحتى بعد ان عاصر بعض هؤلاء الفنانين من اصحاب المشاريع الفنية مثله ، ورأى وعاش ولامس معاناتهم خلال سنواتهم الاخيرة، واخذ شهادة نجاح واعتراف منهم بموهبته كلحن وصوت جميل، واعطاه الجمهور نفسه جواز مرور، فانه لايزال مصراً على موقفه وككل اصحاب المواقف ، وكلل اصحاب المشاريع من هذا النوع الذي يرفضون التنازل عنها..* فنان بهذا الإصرار.. وهذا الطموح وهذا الايمان ، وهذا العناد الجميل سوف يصل يوماً ما إلى مايصبو اليه.* انه حالة إبداعية خاصة.. ورث العناد عن هؤلاء الذين يعتبرهم مثله وقدوته في عالم الموسيقى والغناء .. وعلى رأس هؤلاء محمد عبدالوهاب واحمد قاسم.* انه فنان يملك من طاقة التحمل والصبر مايجعله جديراً بحمل رسالته..* ويملك من الموهبة والاصرار والايمان مايجعله قادراً على تحقيق مشروعه برغم كل المعوقات ..ويكفي انه ابن عدن السباقة الى تقديم كل جديد في الشعر والموسيقى والغناء والحياة والشوق العارم..* ويكفي انه منذ ربع قرن يشد الناس اليه .. إلى الغناء والموسيقى ضمن الحيز المتاح.. انه الفنان عصام خليدي الذي لم التق منذ سنوات فناناً مثله مهموم بمشروع فني طمــوح وكبير مثلما هو مهموم بـه.
|
ثقافة
عصام خليدي .. فنان مثقف ومشروع طموح
أخبار متعلقة