قصة
كانت لحظة مشؤومة تلك التي ضغط فيها على زناد مسدسه مصوباً إياه نحو الهدف المرسوم بدقة غير أن الهدف هذه المرة لم يكن كبقية أهدافه السابقة التي تمثلت في الصيد أو مناسبات الأفراح.هذه المرة كان الهدف رأسه وبدقة وضع فوهة مسدسه بين حاجبيه وفي غفلة من الزمن ألقى نظراته الأخيرة على الأهل وذرف دمعات حرى جرت على خديه كانت ساخنة كسخونة القدر الموضوع على الجمر وما هي إلا ثوان معدودات حتى سمعت وهي تخترق هذا الجسد الطاهر, وما أن سمع صوت الرصاصة الملعونة حتى هب الجميع للبحث عن مصدرها فكانت الفاجعة حين وقع نظر العائلة المنكوبة على الجسد الملقى على الأرض والدماء تتدفق بغزارة لتروي الأرض العطشى.انطلقت الصرخات مدوية لتعلن للجميع هول المأساة وفداحة المصاب في حين انكب الأب على ذلك الجسد الطاهر الرابض في مكانه دونما حراك في محاولة لإنقاذه ولكن قواه خارت فسقط مغشياً عليه..كان الشاب في العشرين ربيعاً, أشقر الشعر مفتول العضلات وعينان عسليتان صرخ الأخ لنأخذه إلى المستشفى لابد أن يعيش فضربات قلبه المنهك مازالت تسمع وعلينا أن نسرع وهكذا وفي انتظار المعجزة استمرت السيارة تطير في الهواء علها تعطيه عمراً لكن هيهات حتى السيارة أنهكت وتعطلت في منتصف الطريق ليبدأ مشوار البحث مجدداً عن سيارة تقلهم إلى المستشفى وبدورها أثقلت كاهل الأسرة المنكوبة بالأسئلة كيف , متى..؟وأخيراً وصلت السيارة وبدأ مشوار البحث عن الطبيب, وما هي إلا دقائق حتى اكتسى ذلك الجسد بالبرودة وضعت الأخت يدها لتحسس نبض الحياة فيه لكن كل شيء انتهى.كان الخبر المشؤوم قد هز أرجاء المدينة وفي الصباح الباكر توافدت جماعات الأصدقاء والجيران إلى المستشفى لزيارته لكن الروح كانت قد صعدت إلى بارئها.خيم الحزن والذهول على المكان وبعد ساعة خرج الطبيب ليبلغهم أن الجثة قد حجزت حتى تدفع المصاريف للمستشفى حينها ثارت ثائرة الجميع وتفادياً للمشاكل وافقت إدارة المستشفى على تسليم الجثة.كانت الدماء لا تزال طرية والجسد لا يزال رطباً وهناك في زاوية المسجد جلس الشيخ المنكوب يذرف الدمع مدراراً حتى بلل لحيته الكثة ولسان حاله يردد رحمك الله يا ولدي رحمك الله ثم ما يلبث أن يجهش بالبكاء فمنظر الرصاصة الملعونة التي كانت قد ذهبت بمؤخرة رأس ولده لم تبرح مخيلته حينها اقترب أحدهم منه وراح يربت على كتفيه مصبراً إياه.وهكذا توافدت جموع المعزيين من المصلين من كل حذب وصوب وبين ذراعي أمام المسجد ألقى جسده وبعينين متوسلتين وقلب مصدوع سأله أفي الجنة هو أم في النار..؟ إنه فلذة كبدي وأصغر ولدي حمل عني المسؤولية في الوقت الذي تنصل عنها إخوته.وما لبث أن هم بالعودة إلى منزله وهو يتمتم إنه الفقر يا ولدي إنه الفقر الذي اقتلع زهرة شبابك وعجزت تماماً عن انتشالك من براثنه. وبموته فقدت الأسرة المنكوبة عائلها الصغير الذي أثقلته الديون وتكالبت عليه الهموم فعجلت بمصيره المحتوم خوفاً من المجهول .