مرافئ
لا أعرف على وجه التحديد لماذا يرتبط مجئ رمضان الكريم في كل عام في ذهني فوراً بطفولتي. ربما يعود السبب إلى أول رمضان صمت فيه، وكان ذلك في مرحلة مبكرة من عمري لا استطيع تحديدها على وجه الدقة. فقد كان أبي على عادة الآباء الذين يحرصون على تربية أبنائهم بقيم الدين وتطبيق أركانه، حريصاً على أن يؤدي ابناؤه الصلاة والصوم منذ سن مبكرة، فتصبحان فوق كونهما فرضين من الفروض الواجبة على المسلم عادة وواجباً يلازمهم مدى العمر.ولما كنت أصغر من أن يتحمل الناحل صوم النهار بطوله، فقد كان أبي ييسر علي الأمر- على أساس فهمه للدين بانه يسر وليس عسرا- بأن يسمح لي بتناول شيء من الطعام في منتصف النهار ثم مواصلة الصيام حتى يحين موعد آذان المغرب. وبهذه الطريقة استطعت التعود وتحمل عناء الصوم والحرمان من الطعام والشراب حتى تمكنت صيام النهار كله عندما أصبحت سني وجسمي لا ئقين... والآن كلما جاء رمضان، فأنني أتذكر هذه المرحلة "الصومية" من عمري، وأجد نفسي مدفوعاً للربط بينهما..ربما هذا سبب أول..أما السبب الثاني، فعائد إلى ان الانسان كلما تقدم به العمر يتوق إلى طفولته وذكرياتها المحببة. وبعد كل هذه السنين فانني اتذكر كل تفصيل مهما صغر من تفاصيل حياتي في الطفولة منذ وعيتها طأنه شريط سينمائي مرئي في الوقت الذي تخونني الذاكرة بتذكر أشياء وأحداثاً قريبة العهد حدثت لي.ومن ذكريات الطفولة الجميلة في رمضان والتي مازلت اذكرها جيدا، أن المقاهي تتهيأ لشهر المبارك فتزين جدرانها الداخلية والخارجية بالرسوم الجميلة. وبعد صلاة العشاء والتراويح تمتلئ بالزبائن من كل الأعمار بما فينا نحن الأطفال، ويبدأ "الرواي" برواية القصص والسير الدينية والفتوحات الإسلامية للرسول "صلى الله عليه وسلم" وبقية الصحابة. وكان هذا سبباً من الأسباب التي جعلتني أتردد على هذه المقاهي بصحبة أبي طبعاً، وأحد الأسباب التي حببت إلي عالم القص والرواية منذ تلك السن، وهو ما لازمني حتى اليوم، ومن جملة المؤثرات التي دفعتني إلى هذا العالم الجميل.ومما علق بذهني عن رمضان منذ الطفولة ذلك المناخ الذي يهيئه الشهر الكريم من طقوس يختص بها وحده دون بقية الشهور، وخاصة بالنسبة لمن كانوا أطفالاً في سني. وأول ما كنا نهيئه هو (المشعال) أو "فانوس رمضان"، وكنا نصنعه من القصدير، ونزينه بالزجاج الملون، ونعبئه بالكيروسين، ثم نضعه على رأس عود طويل، وبعد أن نشعله نطوف به من بيت إلى بيت في أزقة قريتنا المظلمة التي لم تكن قد عرفت الكهرباء بعد.. وتنطلق السنتنا بأناشيد مرحبة برمضان... ومن ذلك انه كان يسمح لنا في ليالي رمضان بالسهر الطويل خارج البيوت، وكان ذلك ممنوعاً علينا في غيره من الأشهر. فكنا نقضي الجزء الأول من الليل في المساجد لاداء صلاة التراويح. أو باللعب أمام بيوتنا في الليالي المقمرة خاصة. أو بالانتقال من مسجد إلى مسجد لحضور "ختم" القرآن الذي يبدأ إعادة في النصف الأول من الشهر وينتهي في الجامع الكبير في السابع والعشرين من رمضان احتفاءً بليلة القدر.وكان جيران كل مسجد في هذه المساجد يحرص على تقديم القهوة المرة والحلوة، وأقراص الحلوى إلى روادها، فكنا كأطفال ننطلق إليها لاحتساء القهوة وأكل الحلوى ونستمع إلى تلاوة القرآن والأناشيد الدينية على إيقاع الدفوف، سعداء بهذه الأجواء الروحانية دون أن يكون لدينا وهي كاف بمعانيها السامية لكنها حتما ساهمت في صياغة وعينا اللاحق.ومن أظرف ما أتذكره الآن من رمضان طفولتي، ان وعينا الطفولي الساذج صور لنا ان الملائكة الذين يتنزلون في (ليلة القدر) التي هي (خير من ألف شهر) يتقمصون هيئات مخلوقات أخرى. وكان أقصى ما سمح لنا به وعينا الساذج ذاك انهم ربما ينزلون علينا على هيئة حيوان من التي نألفها.. ولما لم تكن في قريتنا سوى القطط والكلاب فقد كنا نقوم بمطاردة هذه الحيوانات المسكينة المذعورة في الأزقة والدروب المظلمة. والآن كلما أتذكر منظرنا وأصدقائي نطاردها من مكان إلى مكان اضحك على السذاجة التي كنا عليها، والتي أوحت لنا بذلك التصور الطفولي عن نزول الملائكة في ليلة القدر على تلك الهيئة..ولم ندرك إلا بعد سنوات من ذلك ان الملائكة مخلوقات نورانية لا يمكن لنا رؤيتها رؤى العين في هذه الحياة الدنيا، وربما يتاح لنا رؤيتها في حياة أخرى بعد هذه الحياة... ولكن انتظارنا لهذه الليلة العظيمة التي أنزل فيها القرآن كانت تبعث فينا شعوراً لا يوصف ونحن أطفال، ومازال ذلك الشعور يغمرنا في كل رمضان خاصة في لياليه العشر الأخيرة، رجاء ان نكون من أصحاب الحظوة، فيصيبنا خير هذه الليلة خاصة بعد أن علمنا علم اليقين، أن الملائكة تنزل على أولئك المحظوظين الذين يقضون ليلهم في الصلاة والقيام والعبادة والتهجد والدعاء إلى الله، وليس أولئك الذين يقضونه في مطاردة الحيوانات المكسينة كما فعلنا في طفولتنا الساذجة.ها هو ذا رمضان جديد يهل علينا، اعاده الله علينا وعليكم بالخير والبركات..لكن أول ما يخطر في ذهني هي تلك الذكريات الجميلة من زمن الطفولة. وقد رويت لكم بعضا منها وبقي الكثير .