قصـة قصـيرة
نهلة عبدالله:انكسر الصمت الذي كان يدثر هدوء الصباح الباكر بنعيقٍ مباغتٍ شرس لأسراب من الغربان السوداء التي أخذت تحلق بأعدادٍ كبيرة فوق منازل الحي وعلى وجه خاص فوق سطح المنزل الذي يسكنه (مبارك) الصغير محدثة ضجة أخذت تتصاعد بقوةٍ لتشوِّش على جميع الأصوات وتنبئ بأنّ ذلك النعيق سيستمر زمناً غير معروف .. فغربان الحي لا تجتمع بتلك الكثافة ولا تحلق بتلك الرعونة ؛ إلا إذا تسلل أحداً ما لتدمير أعشاشها، أو إذا أُصيب أحد الغربان بطلقة من بندقية صيد الغربان، التي أقبل على شرائها كثيرون بعد أن ازدادت أعدادها بصورة مفرطة، فكانت تلك الطلقات التي تمزق الهواء تفرقها لبعض الوقت، ثم تعود من جديد إلى الحي وتبدأ بتجميع صفوفها محتلة الأشجار وأسطح المنازل وأسلاك الهاتف المعلقة في الهواء وتتهيأ بحقد دفين للانقضاض على رؤوس النسوة والأطفال، بل بلغ بها الأمر أن تحمل الحصى بين مخالبها وتلقيه على مَنْ يشاكسها.وغربان الحي تملك ذاكرة قوية تلك الذاكرة جعلتها تبدي تصميماً لا يفتر في إزعاج الآخرين ممن يناصبونها العداء وبالأخص تتذكر الذين لا يكفون عن مطاردتها والإيقاع بها أينما حلّت ومن هؤلاء الصبية مبارك الذي كان المرشح الأول لعداوتها والذي كان سبباً لانفجار تلك الضجة، في ذلك الصباح في حوش منزلهم والذي استدعى أن يهرع أهل الحي للتدخل في حل المشكلة.لقد كان مبارك في ذلك الصباح على وشك أن يفتح باب الحوش ويدلف نحو الشارع قاصداً مدرسته ولكن والدته نادته من نافذة المطبخ ملوحةً له بعلبة الألوان التي نسيها على طاولة الطعام فاضطر إلى إن يترك حقيبته بقرب جذع الشجرة التي تقف كالحارس العملاق بجانب بوابة الحوش، واضعاً بداخل الجيب الخلفي المفتوح للحقيبة اللفافة التي تحوي فطوره، وغاب للحظة، وما أن عاد وجد طعامه قد اختفى تطلع عالياً نحو أغصان الشجرة فوجد الغربان تلتهمها.. لم يندهش مبارك فقد اعتاد على تصرفات الغربان المزعجة، كنقر رؤوس الأطفال وخطف الطعام من بين أيديهم والأسوأ من ذلك كله تلويثها لثياب الغسيل المنشورة بمخلفاتها القذرة، فلم يجد مبارك في تلك اللحظة؛ إلا أن يتجاهلها ويقصد المدرسة فلم تكن لديه رغبة في العراك معها، وما أن حمل حقيبته واستعد للخروج إلى الشارع حتى رأى أحد الغربان يحلق فوق رأسه ويمطره بزخة من فضلاته القذرة .. فبهت الصبي .. ووقف جامداً في مكانه ينظر إل قميصه وحقيبته، وقد تلطخ بتلك الكمية من القذارة شاعراً بغضبٍ لا قدرة له على كتمانه، ثم أخذ يصرخ بجنون منادياً أمه التي هرعت مفزوعة إلى الحوش، وأدركت من جموده في مكانه ومن صراخه المتشنج أنّ الغربان قد فعلتها معه كما فعلتها معها عشرات المرات، فراحت تصب لعناتها على الغربان اللعينة، وتنزع ملابس مبارك بتقزز واضح، ورغم سعيها لتهدئة صغيرها؛ إلا أنّه بدأ في تلك اللحظة متحفزاً للانتقام والرد القاسي، فانطلق كالمجنون ليحضر " مزرقه" الذي طالما لقن به الغربان درساً موجعاً فهو يشعر الآن بأنّ بينه وبين الغربان تحدياً من الضروري أن يكسبه؛ إلا أنّ فكرة راودته وهو ينظر إلى "مزرقه" الراقد بين يديه أنّه من الأفضل له ألا يخرج في هذه اللحظة بالذات ويكشف نفسه للغربان فهي ذكية وماكرة وستحس بما سيقدم عليه فأوهمها؛ بأنّه سيظل جالساً في حجرته - وفي الوقت ذاته - أخذ يرصد تحركاتها من خلف ستائر نافذته جامداً كالصخرة، يحاول أن يستعد لتسديد رميته المميتة نحو أحد الغربان الذي وقع الاختيار عليه والذي أخذ يحوم ويقترب من سياج الشرفة بثقةٍ وزهو استفز "مبارك" لكن "مبارك" لم يبدو الآن في عجلةٍ من أمره، فقد ترك الغراب يطمئن وهو يمشي بتلك الطريقة المتلصصة الخرقاء فوق سياج الشرفة بينما أخذ "مبارك" يحاول أخذ الوضعية المناسبة للنيل من ذلك الطائر المتبجح، كان الغراب الآن في مرمى الهدف وبلمح البصر سدد "مبارك" ضربةٍ مباغتة أسقطته من على السياج إلى داخل الشرفة، ثم تركه لبعض الوقت يدور حول نفسه ويضرب بجناحيه أرضية الشرفة .. ولما تأكد أنّه قد أصاب ولم يتمكن من الطيران ثانية برز أمامه مقترباً بحذر فأنتفض الغراب برعب وحاول من جديد الطيران وهو يصرخ صرخات فزعة مستغيثة ونظر في عينيه المرعوبتين بتشفي حاقد، وفي تلك اللحظة كانت الغربان التي تراقب المشهد قد أخذت بالنعيق والصراخ التي استدعى مجيء أسراب أخرى من الجوار وبدأ النعيق البشع يشتد ويتعالى كلما أخذ مبارك ينزع ريش الغراب ويلقيه في الهواء غير آبهٍ بصراخ الغربان التي تكاثرت فوق سطح منزلهم كغيمة سوداء تسعى للانتقام.. حينها لم تعد "أم مبارك" قادرة على الصمت والبقاء ساكنة شعرت بأنّ شيئاً مخيفاً سيحدث لمبارك بعد أن أصبح محاصراً في الشرفة غير راغب بالتخلي عن الطائر وبدأت المسافة بينه وبين أسراب الغربان تضيق وصخب الأجنحة التي حاصرته من كل الجهات تضربه على رأسه وهو لا يملك سوى أن يدفع بيديه المجردتين من أي سلاحٍ فاستنجدت الأم المذعورة بأهل الحي الذين هرعوا بسبب تلك الضجة مصطحبين بنادق الصيد وشرعوا في إطلاق الأعيرة النارية لتفريق مجاميع الغربان التي أغارت على الشرفة، وحينما هدأت الضجة أسرعت الأم بإدخال "مبارك" إلى حجرته، وأقنعته بأن يحتجب في البيت لبعض الوقت؛ لأنّها تعلم من تجرِبتها الطويلة مع تلك الغربان؛ بأنّها ستظل تتربص به طويلاً لتثأر منه فهي حقودة وعنيدة وينبغي تجنبها بقدر المستطاع؛ إلا أنّ أهل الحي كان لهم رأي آخر في التعايش مع تلك الغربان المؤذية بعد الذي حصل هذا الصباح بل أنّهم بدوا مقتنعين تماماً أنّ الوسائل التي يستخدمونها لطرد الغربان قديمة ولا تنفع فاقترح البعض الاستعانة ببلدية المدينة لتحل هذه المشكلة التي أرّقتهم طويلاً وبعد أيام من المشاورات حضر إلى الحي عددٍ من المسؤولين في البلدية ومعهم كميات هائلة من البيض المحقون بالسم واتفقوا مع أهالي الحي على توزيع البيض بحذرٍ شديد في أعشاش الغربان وفي كل مكان تتواجد فيه عند أكوام النفايات وعلى أسطح المنازل وبعد أن انتهى الجميع من تنفيذ المهمة عادوا إلى منازلهم وأخذوا يتراهنون على ما ستسفر عنه، تلك الوليمة الدسمة من النتائج وعلى الرغم من اقتناع كثيرين بهزيمة الغربان؛ إلا أنّ بعضاً شكك بنجاح الفكرة وراهن على أنّ الغربان ذكية وماكرة وستكتشف الحيلة ولن تجازف بالاقتراب من البيض حتى وإن كانت راغبة فيه، ولكن الذي حصل هو أنّ الغربان انطلت عليها الحيلة وأخذت تلتهم البيض بشهية تثير الدهشة والاستغراب، وبين لحظة وأخرى كان يخالط صوت انقضاضها على كميات البيض نعيق وصرخات قاسية متوجعة وما أن بدأت حرارة الضحى تقوى وتشتد حتى ساد الهدوء أرجاء الحي ولف الجميع ترقب وقلق قاسي، ثمّ فجأة تعالت هتافات بعض الصبية المبتهجة التي كانت تحمل بشرى طالما انتظروها تخبر عن نهاية الغربان وحينما خرجوا ليتأكدوا من صحة الخبر، رأوا عربات نقل القمامة تجوب الحي حاملة أكوام من الغربان الميتة التي جمعوها بسرعة لحرقها بعيداً عن الحي الذي شهد فصولاً مزعجة من حكاية الغربان المشاكسة.