نامت فتح طويلا.. على شخير الشعور العميق باستحالة فقدها للسلطة مهما فعلت.. ذلك بفعل شيء يشبه الإدمان.. كرسته عقود من التفرد والاستئثار. لم تنتبه فتح مبكرا الى ان تغييرا جوهريا حدث على الارض حين دخلت عملية السلام. وعادت قيادتها الى الوطن على اجنحة اتفاقات مشكوك في قوتها وقدرتها على الصمود.. ووجدت نفسها وجها لوجه أمام حقائق جديدة؛ أهمها مواجهة ملايين البشر الذين تعودت على قيادتهم واتخاذ القرارات باسمهم عن بعد. ولقد تصرفت فتح مع الوضع الجديد، بذات الأساليب القديمة وذات الأدوات.. إزاء شعب مليء بالآمال المشروعة وازاء سلطة لا أمل لها في الحياة والتطور، بدون العمل وفق قوانين حديثة.. وأداء عصري يرضي داعميها، ويبث الطمأنينة في نفوس الخائفين منها. كان الرهان الفعلي مركزا على نجاح تجربة اوسلو من دون ان يوضع في الحسبان احتمال الفشل والانهيار وربما حتمية الذهاب الى اتجاه آخر.. هو المقاومة المسلحة.. اي الى نقيض ما كان قائما في السنوات الاولى من عهد السلطة الوطنية. وبفعل عوامل عديدة، انهارت رهانات اوسلو السلمية واندلعت الانتفاضة المسلحة وظهرت على الساحة الفلسطينية وداخل فتح بالذات، قوى جديدة كان السلام المؤقت قد استوعبها في بنائه الوليد. وانقلبت الموازين.. وصعدت نجوم وخبت أخرى، وكانت المحصلة.. ان تراجع دور مؤسسات فتح التقليدية لمصلحة تشكيلات جديدة نمت وتجذر نفوذها على ارض المقاومة المسلحة. كانت حماس تنمو بقوة في مناخ مواتٍ، ونجحت في فرض نوع من الفرز العام على الساحة، تظهر فيه فتح لاعبا في عملية سلام محتضرة، وتظهر هي كقائدة لخيار بديل.. مما وضع فتح في موقع من هو مضطر لحمل نقيضين في يد واحدة، فضعفت على صعيد رهان السلام، ولم تقو كثيرا على حساب حماس في رهان المقاومة المسلحة.. في هذا المناخ، جاءت العملية الديمقراطية من خلال انتخابات مجالس الطلبة، ثم المجالس المحلية.. وأخيرا المجلس التشريعي. لم تحسن فتح قراءة النتائج، وجرت اكبر عملية تضليل للذات.. حين اعتمدت قراءات ثابتة ومغلوطة لاستطلاعات الرأي.. فاعتمدت على حصة ثابتة في السلطة تفوق حد الخمسين في المائة. وعودت نفسها على قبول حماس شريكا أصغر.. وليس بديلا أكبر. لقد تعاملت فتح مع واقعها منذ بداية تراجعاتها في جميع الانتخابات التي حدثت على كل المستويات بطريقة غير منطقية كانت تقلل من اهمية سقوط في اتحاد للطلبة، او في مجلس محلي، معتبرة هذا السقوط مجرد انهيار جزئي، سيتم تعويضه في انتخابات قادمة. حين تصحو فتح من نومها بدون ان تبذل اي جهد يجعل الصحو حقيقة وليس مجرد أمنية. وحين جاء الاستحقاق الكبير وربما الأخير بتحديد موعد انتخابات المجلس التشريعي، أقدمت فتح على مغامرة افقدتها الكثير من مقومات النجاح المضمون وأعني بها الانتخابات التمهيدية، البرايمرز، التي جاءت بمثابة زلزال داخلي، هز اركان الحركة من الجذور، وعمق الصراع بين اعضائها، على نحو دخلت فيه انتخابات التشريعي بوضع نفسي قلق، وخاضت الانتخابات كما لو انها فصل جديد من فصول البرايمرز، فاستمر الصراع الداخلي على وتيرته، وانعدم الانضباط وكثر المرشحون المستقلون الذين رشحوا انفسهم بدوافع ثأرية مما جرى في البرايمرز، وحصل المستقلون على اصوات لو حصل عليها الرسميون لنجح معظمهم. كما ان الصراع الداخلي في فتح وضع بصماته السلبية على جميع مستويات العملية الانتخابية، من تشكيل القوائم الى التأخر الملحوظ في بدء الحملة الدعائية، الى شح الموارد المركزية الى حد ان المرشحين تورطوا في الإنفاق على الحملة، مما جعلها حملة افراد اكثر من كونها حملة قائمة او كتلة. وعلى عكس ما كان في فتح، كان في حماس، حيث الانضباط الحديدي الذي لم يتجاوز الخلل فيه العشرة في المائة، وهذه نسبة لا تؤثر في النتائج بشيء، وفي الوقت الذي تحركت فيه ماكينة حماس الإعلامية بقوة، وعلى نحو مبكر، تحركت ماكينة اخرى بقوة وانضباط واتقان وهي ماكينة العلاقات العامة حيث تم تنظيم نقل الناخبين الى الصناديق، ومخاطبة القطاع الشعبي العريض بلغة دينية ذات تأثير سحري من البيت الى الصندوق. وفي كل حال، فان دراسة لما حدث.. اصبحت ضرورة للتعاطي مع الحاضر والمستقبل، غير ان ما نحن بصدده هذه الايام هو الاجابة عن السؤال.. كيف ستتصرف حماس، مع هذه الثروة المفاجئة التي هبطت عليها، وفيها كل مغريات الاستئثار بالسلطة والتحكم فيها.. سيكلف عباس أحد قادة حماس بتشكيل الحكومة، وسيتركه للتشاور مع القوى السياسية، وخاصة المنضوية تحت لواء التشريعي، وفتح لن تشارك في المشاورات ولا في التشكيل.. غير أن ما سيربك الجميع حتما، هو عدم جاهزية قطبي الشارع لمهامهما الجديدة. فلا فتح جاهزة للمعارضة ولا حماس جاهزة للسلطة، وبالتأكيد سيدفع الشعب الفلسطيني ثمن هذا الاشكال الجوهري. قد تلجأ حماس لحكومة من خارج المجلس قوامها مستقلون او مهنيون.. وهذا امر يمكن ان يشكل مخرجا لها من ازمات الانتقال المفاجئ من موقع المعارضة الى موقع السلطة، إلا انه لن يعفيها من حتمية النجاح، وخاصة فيما لم تنجح فتح فيه. في كل حال.. فان النجاح في صناديق الاقتراع رصيد وافر.. إما ان يؤدي الى نجاح محقق على الارض، وهذا ما نرجوه من اجل فلسطين وإما ان يقود الى فشل.. وهذا ما سيغير خريطة القوى على الساحة الانتخابية. ان ما حدث كان بكل المقاييس انقلابا قويا ستتواصل ردود الفعل عليه الى أمد بعيد.. وأولها ومركزها رد الفعل الاسرائيلي الذي سيستثمر فوز حماس في انتخاباته المقبلة، وفي تبرير سياساته القاسية ضد الفلسطينيين غير ان الجميع في هذه الحالة.. مُطالبٌ بالهدوء والتعقل وقراءة الواقع بتبصر، حتى نرى كيف ستمارس حماس بعد هذا النجاح الكبير، وكيف ستتصرف فتح بعد هذه المفاجأة غير المتوقعة. * نبيل عمرو " وزير الإعلام الفلسطيني السابق "* عن / " الشرق الأوسط "
|
مقالات
الانتخابات الفلسطينية: إذا حدث ما حدث..؟!
أخبار متعلقة