المجتمع في حقيقته ليس كيانًا ضخمًا كما نتخيله في نشرات الأخبار أو في سجلات الدول. إنه نَفَسٌ جماعي، يتشكل من أنفاس صغيرة صادقة تصدر من مطابخ البيوت، من حديث أمٍّ تخفف عن ابنها، ومن أبٍ يبتسم رغم التعب، ومن طفلٍ يتعلم أن يشارك لعبته بدل أن يحتكرها.
المجتمع ليس الساحات ولا الشوارع، بل تلك المساحات الصغيرة التي تتسع بالحب وتضيق بالأنانية. حين نرى الناس يتحدثون عن “تعايش المجتمعات”، نتصور اتفاقيات دولية، أو مؤتمرات عن التسامح، أو شعارات مطبوعة على الجدران. لكنّ التعايش لا يولد هناك، بل يولد في الصمت الأول بين زوجين بعد خلاف، في اختيار الكلمة اللطيفة بدل الجارحة، في قبول الاختلاف داخل المائدة الواحدة قبل أن نحلم بقبوله في الوطن الواحد.
المجتمع لا ينهار لأن السياسة فشلت فقط، بل لأن الأسر نسيت فنّ الإصغاء. والتعايش لا يُصنع بالخطابات، بل بالقدرة على النظر في عيون من نختلف معهم دون خوف أو احتقار.
إن كل صراع كبير في العالم بدأ من نزاع صغير في أسرةٍ ما لم تتعلم كيف تحبّ الاختلاف. وكل سلامٍ شامل يبدأ حين يقرّر بيتٌ واحد أن يكون منارةً للرحمة بدل مرآةٍ للغضب. لذلك، حين نفكّر في إصلاح المجتمع علينا أن نبحث أولًا في صوتنا ونحن نتحدث مع من نحب، في أسلوبنا ونحن نختلف، في تربيتنا لأطفالنا. دعونا نسأل أنفسنا: هل نعلّمهم أن يكونوا على حق دائمًا؟ أم نعلّمهم كيف يصغون حين لا يكونون كذلك؟
كل وطنٍ هو مجموعة قلوبٍ تتعلم التعايش تحت سقفٍ واحد. وكل حضارةٍ عظيمة كانت في أصلها “أسرة فاضلة” كبرت حتى احتضنت الجميع.
فلنبدأ من هناك، من حيث يختبئ المجتمع في صورته الأصغر: في كأس شاي يجمع بين جيلين، في كلمة “نحن” التي تغلب “أنا”. وحين نُتقن بناء هذه الدائرة الصغيرة من التفاهم، سيتسع الضوء وحده، بلا قرارات ولا قوانين، ليغمر العالم بأسره.
ودمتم سالمين.
