كتب/ صالح البيضاني في العشرين من مارس من العام 2000م ترجل فارس السرد اليمني الأديب والمبدع اليمني الكبير زيد مطيع دماج في المستشفى الجامعي بلندن عن عمر ناهز السابعة والخمسين مخلفا ذاكرة لا تمحى أخذت مكانها الرفيع في محراب الأدب العربي حيث استطاع دماج أن يكرس حضور الأدب اليمني وخصوصا القصة اليمنية من خلال سلسلة من الأعمال الأدبية التي خطت بالقصة والرواية اليمنية نحو آفاق أرحب وفضاءات جديدة.لقد صنع دماج اسما مرموقا له وللأدب اليمني عموما حيث أصبحت أعماله الأدبية محط اهتمام النقاد العرب والأجانب وترجمت العديد من أعماله إلى لغات أخرى.واليوم ونحن نحيي ذكرى رحيل دماج مازالت أعماله تحظى بنفس القدر من الاهتمام الذي حظيت به في حياته.إطلالة على السيرةتعددت تجارب دماج في الحياة التي خبرها وعاشها على كافة وجوهها مناضلا وسياسيا وأديبا وفنانا حيث يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح متحدثا عن مواهب دماج المتعددة:(اشتهر زيد مطيع دماج بكونه قاصاً وروائياً، ولم يشتهر بصفته رساماً ولا صحفياً أو برلمانياً أو دبلوماسياً. وشهرته كقاص وروائي غطت على مواهبه الأخرى كما غطت على دوره في الحياة العامة، وما تركه من إنجازات وإضافات في كل الأعمال التي تولاها أو شارك فيها).وتروي سيرة دماج الذاتية بعضا من مراحل حياته العريضة التي بدأت في العام 1943 م في عزلة النقيلين، ناحية السياني، بمحافظة اب مسقط رأسه.لتبدأ الملامح الأولى التي شكلت شخصيته في البروز حيث تلقى تعليمه الأولي في ((الكتاب)) مع أقرانه في القرية فحفظ القرآن الكريم وبعد ذلك تولى والده عملية تعليمه وتثقيفه من مكتبته الخاصة التي عاد بها من عدن فقرأ كتب الأدب والتاريخ والسياسة وكان من أهمها ((روايات الإسلام)) لجرجي زيدان.ومن أبرز المحطات التي توقف عندها دماج في حياته السياسية والمهنية دراسته للحقوق في جامعة القاهرة والصحافة في جامعة صنعاء و انتخابه عضوا في أول برلمان يمني عام 1970 ومن ثم رئيسا للجنة الثقافة فيه. وتعيينه محافظا للمحويت و من ثم انتقاله للعمل الدبلوماسي في سفارة اليمن بلندن حتى وفاته.دماج مبدعاً.. الرهينة في الصدارةأما عند الوقوف عند تجربة المبدع الكبير/ زيد مطيع دماج في حقل الثقافة والأدب فسنجد أنفسنا أمام رحلة عملاقة من الإنجازات الأدبية الخالدة فقد بدأ دماج كتابة القصة منذ وقت مبكر وهو طالب في الثانوية العامة في مصر لينشر المقالات السياسية وبواكير أعماله القصصية في مجلة (اليمن الجديدة).وعلى الرغم من ذلك فلم ينشر دماج أولى مجموعاته القصصية (طاهش الحوبان- 1973)إلا وهو في العقد الثالث وربما ذلك ما يفسر حالة النضج والتقارب من حيث الشكل والمضمون والمستوى الإبداعي في معظم أعمال زيد مطيع دماج وهو ما قد نسميه الانصهار الإبداعي الذي صهر التجربة الإبداعية في قالب واحد نتيجة العوامل المحيطة بهذا القالب الذي لم يتأثر كثيرا بتقلبات العمر ومراحله, وتغيرات التجارب والخبرات التي تمر بمراحل مختلفة عن سابقاتها وعن التي تليها.و يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح في هذا الشأن:( لم يكن زيد يكتب إلا بعد اختزان واستبطان تتمكن التجربة خلالهما من امتلاك تكوينها وحينما تصل ذروتها يعكف عليها ليضعها على الورق”.ويمكن أن نشير في هذا المقام إلى الآراء النقدية التي أثارتها المجموعة القصصية الأولى لدماج والتي قال النقاد أن أبرز السمات الموضوعية في هذه المجموعة تمثلت فيما يلي أولا:المحلية. ثانيا:الريفية. ثالثاً: الثورية. وقد تواصل بعد ذلك الزخم الإبداعي لدماج حيث صدرت له مجموعة قصصية عام 1982م بعنوان (العقرب) تلتها روايته الأشهر (الرهينة) التي صدرت في العام 1984م ليتوالى نشرها في عدة طبعات ويتم ترجمتها إلى عدة لغات حيث ترجمت إلى الفرنسية عام 1991م و إلى الإنجليزية عام 1994م و إلى الألمانية عام 1999م. إضافة إلى اليابانية والصينية وعدة لغات أخرى. كما اختيرت ضمن مشروع اليونسكو ((كتاب في جريدة)) عام 1998م. و في أوائل 2000م اختيرت من قبل إتحاد الكتاب المصريين واحدة من أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين. وقد جاء في مقدمة (الرهينة) التي أصدرها اليونسكو ضمن مشروع كتاب في جريدة: « الرهينة واقع حكاية لا حكاية واقع يمكن أن يتحقق أو هو قد تحقق, عاشه المؤلف أو كاد» أهميتها أنها تخرج من خزائن الذاكرة العربية السحيقة وهي بنت سنواتنا ومعاصرتنا هنا في جنوب الجزيرة العربية في بلد عربي هو اليمن. هذا اليمن الذي يدخل الألف الثالث الميلادي وعلى كتفه جلباب الجبل المطرز ببهاء العمارة العربية الأصيلة والموشى بالمدرجات الزراعية الألفية التي تغسل أقدامها في بحيرة سبأ وسدها الأسطوري تحرس قيلولته أشجار القات في انتظار عودة الأمطار الموسمية والأبناء المهاجرين في كل أنحاء المعمورة. بين ملامح المعاش / المتخيل اليمني وبين إيماءات واختلاجات الموروث العربي الإسلامي ترتسم مثل شريحة عمودية لحالة عربية تتجاوز حدود اللغة والأدب والاجتماع لتعكس بمراياها الداخلية سؤال الزمن العربي الإسلامي بين الماضي والحاضر, هذا الأخير الذي صار يدير ظهره كليا عن المستقبل ليستقبل صورة ماضيه وحدها لا منازع, مفتونا بها تاركا شعوبا ومصاير في وحل المعاش وانهيار العالم حواليه. إنها تطرح السؤال بشكل جديد وكأنها لا تريد جوابا. تلك عفوية دماج في هز جدران الحاضرة العربية واليمنية بالذات. ولكن, تبقى يمنية بسلاسلها وملامحها وجدرانها وشبقها وسطوتها وبندقيتها وإمامها وقمرها (الحالي) (المفتون بسهولها وسفوحها).وفي دراسته عن رمضان في الرواية العربية قال الناقد العربي منير عتيبة عن (الرهينة): (أما الكاتب اليمني زيد مطيع دماج فيقدم في رائعته (الرهينة) ما يمكن أن يكون (بانوراما) متكاملة لشهر رمضان في اليمن في الأربعينيات من القرن العشرين، فهو يقارن بين طقوس الاحتفال برمضان في القرية والمدينة، ولدى الفقراء والجنود والأمراء، ولدى الرجال والنساء، ورمضان هنا أيضًا ليس مجرد وصف فلكلوري لطقوس معينة، ولكن الكاتب يستخدمه بذكاء للتعبير عن تفتح وعي الشخصية الروائية الرئيسة في الرواية، وذلك من خلال ملاحظته للفروق المختلفة في طقوس الاحتفال برمضان، وما يشير إليه هذا الاختلاف من اختلافات أعمق على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فرمضان في هذه الرواية أيضًا يمكن اعتباره (شخصية فاعلة) أو محركاً أساسياً، حافزاً؛ لتطور الوعي في الرواية ما يدفع بأحداثها إلى الأمام ويطورها).كما يكتب الناقد سلام عبود قائلاً: (بظهور (الرهينة) تكون الرواية اليمنية قد خطت الخطوة المرتقبة، التي لم يتمكن سابقو زيد من تحقيقها ، والمتمثلة باجتياز حاجز القصور الفني ، وامتلاك شروط النضج القصصي كاملة .ولا يجد المتتبع للأدب القصصي في اليمن غرابة في أن يكون زيد مطيع دماج أول من اكتملت لديه أسباب النضج الفني بروايته الأولى ).كما يقول د. محمد عبد الرحمن يونس: (تعتبر رواية (الرهينة) للروائي اليمني زيد مطيع دماج، من أهم الروايات اليمنية التي رصدت لمختلف العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية في فترة نظام حكم الأئمة، أي قبل قيام الحكم الجمهوري بصنعاء، وهي من أجرأ الروايات اليمنية الحديثة والمعاصرة في التركيز على فضاء الجسد والجنس، والقصور، وأيديولوجيا الطبقة الأمامية البائدة. إنها تؤسس لفن روائي يمني، يخرق المحرمات، وفق سخرية حادة مرّة من كل الأعراف والتقاليد والقيم البطريركية المؤسسة على نظام معرفي سلطوي، أحادي الرؤية في تطلعاته ومفاهيمه وقيمه).لم تكن الرهينة نهاية المطاف لدماج بل كانت فاتحة للكثير من الأعمال التي تلتها فقد صدر لدماج مجموعة (الجسر) عام 1986م.و(أحزان البنت مياسة) عام 1990م.و( الانبهار والدهشة) وهو كتاب سردي من الذاكرة صدر عام 2000م.و ( المدفع الأصفر ) عام 2001م و(المدرسة الأحمدية) التي كانت آخر أعمال الراحل الذي قهر النسيان.
|
ثقافة
زيد مطيع دماج. .حضور يقهر النسيان وذاكرة مخضبة بالعطاء
أخبار متعلقة