قصة قصيرة
لم يسبق له أن شعر بهذه الحال ؛ إلا قبل زمن طويل .. مرر كفه على صدره المرتجف؛ غطى وجهه من شيء ما يعرفه ، ولا يراه .. تمنى لو أنه شيء ثابت في هذا البيت لا يراه أحد ، ولا يرى أحداً .ثمة شيء يخنقه ، وآخر يدفعه إلى المجهول ..ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم !!قال في نفسه .. وأضاف :ـ ما هذا الأمر الذي لا أجد له تفسيراً ؟!نهض من مكانه .. توجه إلى الشرفة .. نظر من خلف الساتر بحذر جم خشية أن تقع عينه مرة أخرى في سحر إحداهن ؛ كما حصل في المرات السابقة .. حاول أن يستنشق أكبر قدر من الهواء .. جلس على كرسيه منكساً رأسه إلى الأرض .. تقزَّم أمام نفسه .. تمنى لو أنه شيء قابل للاختفاء .لم يصدق أولاده ، وبناته أنه خرج من غرفة جلوسهم .. بدأوا يتبادلون الحديث بطلاقة ، ويضحكون بأصوات خافتة ؛ وهم ينظرون إلى أمهم الغارقة في سبات عميق كعادتها في كل ليلة ، وخصوصاً بعد أن كبر الأولاد ، وكبرت معهم أعباء خدمتهم، وخدمة أبيهم .قال عمر :ـ مسكين أبي !! الله يعلم من خطفت قلبه اليوم وهو في طريقه إلى المسجد !!ـ قالت سلمى :ـ والله عيب عليك تقول هذا الكلام على أبي يا عمر .. لماذا لم تفكر بشيء آخر ؟ هموم الدنيا مثلاً كثيرة ...ـ رد سليم :ـ لكن يا سلمى أبي زاهد في الدنيا ، وهذه الحال بدأت قبل أيام ؛ لكنها الليلة زادت قليلاً .. ادعوا له !رد عمر مقهقهاً هذه المرة بصوت عالٍ :ـ صدقوني وقع العصفور الليلة .. مسكينة أمي .. نسيت العطر ، والفل ، والكاذي ؛ الذي كان يجذب أبي إليها منذ زمن ..التفت الأب إلى أصوات الأولاد والبنات .. لكنه عاد مع ذلك إلى تفكيره في الحال التي هو فيها .. ارتفعت الأصوات مرة أخرى .. قال عمر :ـ على قول المثل : إذا بلي الموفى زيِّدوه قرامد !!تداخلت الأصوات ؛ ما بين منكر ، ومؤيد .. .. قال عمر :ـ يكفينا كذباً على أنفسنا ، وعلى الغير .. نحن نريد أن نتزوج .. كلنا نريد أن نعيش .. يكفينا كتماناً ، وضغوطات !!.ارتفعت أصوات البنات :ـ رجاءً خص نفسك يا عمر !!قالت سلمى ؛ وهي تمسك بكراستها الجامعية ، وتهم بصفعه بها :ـ كل الرجال وشنباتهم على رجولي يا سخيف !!التفت الوالد مرة أخرى ؛ وهو يسعل بصوت مرتفع ؛ لكنه هذه المرة كمن أدرك حقيقة معاناته هو نفسه ..ـ قال في نفسه :ـ لكن يا عيباه !! كيف أعالج هذه المشكلة؟ بل كيف أتكلم معهم في شأن كهذا ؟ أنا علمتهم الحياء ؛ كما تعلمته من أبي وأمي، كيف أفتح لهم هذا الباب ؟ أستغفر الله العظيم !!حاول أن يستمع مرة أخرى إلى أولاده .. هدأت الغرفة .. لم يسمع سوى تمتمات ، ومحاولات هامسة لسلمى لمصالحة أخيها عمر الذي كان ما يزال يبكي ندماً على ما بدر منه ، فهذه أول مرة ـ كما يقول ـ يفكر فيها على هذا النحو الوقح .نهض الأب من مكانه .. تنحنح كعادته .. دخل ببطء غرفة جلوس الأولاد .. كان الجميع قد انخرطوا في صلاة الوتر بقراءات هامسة .. خاشعة ؛ بمن فيهم عمر، وسلمى اللذان قاما للتو .جلس على مجلسه في الغرفة .. أتم الجميع صلواتهم .. تسمرت أعينهم بفمه .. قال سليم قاطعاً حبال الصمت :ـ لا شر عليك الليلة يا أبي !!ـ ولا عليكم .تنفس عمر الصعداء وهو يسترق النظر إلى أبيه .. عيناه لم تكونا كما توقع موجهتين نحو من أرتفعت أصواتهم .. وصدره يبدو جد منشرح .قال في نفسه : ـ الحمد لله مرت بسلام !!دخل الجميع في أحاديث ودية .. ضحكوا حتى كادوا ينسون حديثهم السالف .. مر الوقت سريعاً .. وفجأة جلس الوالد القرفصاء كعادته عند قراءة كفارة المجلس .. استعدوا للنهوض .. وقبل أن يقوموا ؛ أشار لهم بالجلوس ، ثم قال لهم ؛ والابتسامة على شفتيه :ـ قد سمعت بعض حديثكم الليلة ..ضحك ضحكة كأنها نابعة من جرح عميق .. حاول عمر أن يتكلم .. لم يسمح له .. التفت إلى الجميع بحزم ، وهدوء ، ثم قال بحنان غامر ؛ لم يعهدوا مثله من قبل :ـ اسمعوا يا أولادي .. أنا عندما ربيتكم على خلق الحياء ؛ لم أقصد أنني ضد الفطرة .. لا يا أولادي .. الحياء زينة الفطرة ، وجلالها ، ولكن لكل جيل أسلوبه في التعبير .. بدليل أنني تزوجت أمكم !! وإلا كيف تزوجت ؟!قال سليم :ـ لكن يا أبي نحن طوع أمرك ، والزواج صدقني لا نفكر فيه ، ولا نريده على الإطلاق .. على الأقل الآن .. نحن الليلة كنا فقط نمزح ... نمزح فقط . ـ على كل حال يا أولاد .. ليس أجمل من الحياء .. ولا بأس عندي مثلاً أن يضع أحدكم عمامته عند الباب !!ـ ولماذا يا أبي ؟!قال سليم ، وكأنه لم بفهم المراد .ـ كن لمَّاحاً يا ولدي !! طبعاً لأعلم أنا كوالد، ولتعلموا أنتم أيضاً أن من وضع العمامة يرغب في الزواج .. فنعينه نحن جميعاً .. جميعاً دون استثناء .. اجعلوا ذلك إشارة بيننا !!نظر الجميع إلى وجه أبيهم بصمت .. التفتوا إلى بعضهم البعض .. اكتفوا بتقليب أيديهم .. لم يتجرأ أحد بعد ذلك على الكلام .. توجهوا كما أمروا إلى مضاجعهم .. ثم أصبحوا مبكرين كالعادة إلى مساجدهم ، وقبل أن يغادروا المنزل في الصباح ؛ كل إلى عمله ، وكليته ، ودوامه؛ نظروا إلى الشماعة المثبتة عند الباب ؛ فإذا عمامة الوالد ، وبرقع سلمى يزاحمان بخجلٍ جم عمامات أخرى علقت على الشماعة بحرص ، وبإحكام شديد ..ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[email protected]