نبض القلم
يذكر لنا القرآن الكريم صنفين من الناس : الصنف الأول هم طلاب الدنيا فقط، والذين لايلتفتون إلا اليها، ولايحرصون الا عليها، اما الصنف الثاني فهم طلاب الدنيا والآخرة ، أي الذين يطلبون الحسنة في الحياتين. قال تعالى : "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق* ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"(البقرة، -200 201).وهناك صنف ثالث من الناس لم يذكرهم القرآن الكريم وهم الذين لايطلبون الا حسنة الآخرة، وما لهم في الدنيا من نصيب، وعدم ذكر هؤلاء في القرآن الكريم او تجاهلهم يوحي لنا بأن هذا الصنف من الناس لاوجود لهم في الحياة، وان وجد بعضهم في الحياة فهم من المغالين في الدين الذين اهملوا الدنيا واهدروا شآنها في سبيل طلب الآخرة، وهو أمر مذموم لانه خارج عن الفطرة البشرية.ولهذا فان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل فكرة الانقطاع عن الدنيا من اجل الرغبة في الآخرة، ولم يحبذ عملية الاعتزال المطلق لعبادة الله، فكان اذا لاحظ في بعض اصحابه نزعة الى هذا السلوك المغالي نهاهم عنه، ودعاهم الى سواء السبيل.ولقد انكر الرسول صلى الله عليه وسلم الغلو في العبادة الشعائرية، ورفض انشغال المسلم بها وحدها، وهضم حقوق الحياة من اجلها، لان الاسلام ليس دين اعتكاف وعزلة، وانما هو دين حياة وتقدم وعمران، وقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه انس بن مالك : ان رهطاً جاؤوا الى بيوت ازواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهن عن عبادته، متصورين انه راكعا ساجدا ابدا، كل لياليه قيام، وكل أيامه صيام، ليس لعينه حظ من نوم، ولالجسده حظ من راحة، ولالنسائه حظ من قربه، فلما اخبرتهم زوجاته بعبادته ،تعجبوا وقالوا : أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ماتقدم ذنبه وما تأخر، وكان عجبهم من كونهم غالوا في العبادة، وافرطوا في أداء شعائرها ، على خلاف مايفعله الرسول، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فوصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى إليهم وقال: أنتم القوم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأثقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني .. (أبن الأثير، ص 294).ولقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أن يعرفهم أن العبادة ليست في الانقطاع عن الدنيا، وهدر حق الحياة، وهناك نصوص كثيرة في كتب السنة النبوية ترفض الغلو والتشدد في الدين، وتعتبر ذلك تنطعاً، ومن ذلك مارواد مسلم عن أبن مسعود رضى الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال:( الا هلك المتنطعون) (مسلم، العلم، 7) وقال في حديث آخر:( وإياكم والتنطع ) (الدارمي، المقدمة، 19) والتنطع هو التشدد في غير موضعه، والمتنطعون هم المتشددون في كلامهم وعبادتهم. ولقد أجاز الإسلام للعاجز أن يصلي قاعداً، وأجاز لمن يشق عليه الصيام أن يفطر ، وكذا للمريض والمسافر، وأجاز التيمم في حال المرض والبرد الشديد ، كل ذلك رفقاً بالإنسان وتيسير عليه، بما يعني أن الغلو ليس من الإسلام، فلا ينبغي التعاطي معه، فهو من الأمور التي نهي عنها القرآن الكريم في قوله:( يا أهل الكتاب لاتغلو في دينكم) (النساء، 171)، وجذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:( إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (النسائي، مناسك، 217). ولم نيه الإسلام عن الغلو الا للأخطار الناجمة عنه، وهي أخطار كثيرة منها:-1 أن الغلو يؤدي إلى التقصير في الواجبات، ويتنافى مع مبدأ اعتدال الإسلام ووسطيته، ومخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الديار والصوامع ) أبو داؤود الأدب 44.-2 الغلو يبعد المرء عن جادة الصواب ، بإتباع الخطاب الديني المتشدد ، والانكفاء على الذات ، ورفض الانفتاح مع الآخر ، والخشية من التواصل مع الثقافات والحضارات الأخرى والسير في طريق الانغلاق والبعد عن طريق الاجتهاد ، وعدم الاعتراف بفقه التحولات الذي تحتمه المتغيرات المتسارعة في عالم اليوم ، فانحسرت مساحة التعدد وانتشرت ظاهرة الواحدية في أوساط جيل من الشباب والناشئة ممن تم تعبيتهم بمفاهيم خاطئة عن الدين انطلاقاً من الالتزام بواحدية امتلاك الحقيقة وواحدية المرجعية وواحدية الرأي وواحدية المسار ... إلخ ونشب من جراء ذلك صراعات مذهبية حادة اتسمت بالطابع الإلغائي فكل مذهب يكفر الآخر ويظن انه وحده يمتلك الحقيقة ، ولا يسمح لأتباعه الاختلاط بالمخالفين حتى لا يتأثروا بهم .-3 الغلو يؤدي إلى تفريق الأمة حين يعمدوا المغالون في الدين إلى الاشتغال بالمهم وترك الأهم والاهتمام بالفروع وترك الأصول فيبدلون الجهد فيما هو مختلف فيه على حساب ماهو مجمع عليه ويتعصبون للرأي ويتعاملون مع مخالفيهم بنوع من الجفاء والغلظة ويسقطون في هاوية التكفير من دون ضوابط شرعية ، بما من شأنه تفريق الأمة.[c1] * إمام وخطيب جامع الهاشمي – الشيخ عثمان[/c]
