ليس ثمة شك في أن خطباء الجمعة مطالبون بمناقشة مختلف المشاكل التي يواجهها الوطن والأمة انطلاقاً من مسئوليتهم الدينية التي تفرض عليهم التعاطي مع الأحداث من خلال رؤية دينية تعتمد على الدعوة لتوحيد الصف ونبذ الفرقة وإشاعة مفاهيم التآخي والمحبة والتسامح بين أبناء الوطن الواحد وبين أبناء الأمة العربية والإسلامية بشكل عام. لكن ثمة خطباء يحيدون عن ذلك بتبني مواقف سياسية صرفة تخدم أطرافاً وقوى سياسية سواء داخل اليمن أم خارجه بشكل يتناقض تماماً مع مهمة الخطيب الذي يفترض فيه أن يكون داعية توحد وأخوة، لا نافخ كير، ومشعل فتن. ورغم أن اليمن تواجه تحديات كثيرة لعل أبرزها وأخطرها تحدي التطرف والإرهاب سواء أكان إرهاب وتمرد الحوثي أو إرهاب تنظيم القاعدة أو دعوات الانفصال التي يروج لها البعض ناهيك عن آلاف القضايا التي تتطلب من الخطباء التعاطي معها برؤية دينية تسهم في حث المجتمع على مواجهتها انطلاقاً من الواجب الديني والشرعي والدستوري والقانوني على الفرد والمجتمع ، إلا أن خطباء كثر يتجاوزون تلك القضايا ويقفزون عليها ذاهبين للحديث عن قضايا سياسية إقليمية ، ودولية بشكل لا علاقة له بالمفاهيم الدينية . ومع أحقية الخطباء في تناول بعض القضايا المتعلقة بالأمة العربية والإسلامية -رغم عدم صوابية القفز إليها وتجاوز واجباتهم في مناقشة القضايا التي تهم الوطن على الأقل في نظري- ،إلا أن الواجب يتطلب أن يكون ذلك التناول هدفه الدعوة إلى الاتحاد والتآخي ونبذ الفرقة والانقسام والتشرذم ،لا التناول السياسي الذي يتبنى مواقف معينة ومسبقة لخدمة أطراف ضد أخرى . في أحد مساجد العاصمة خصص أحد الخطباء خطبتي الجمعة لقضية الجدار الفولاذي الذي تبنيه مصر على حدودها مع قطاع غزة، وقضية قافلة شريان الحياة وتناولهما بشكل مشابه تماماً في الشكل والمضمون لما يثار حولهما على شاشة بعض القنوات التلفازية وبأسلوب يجعل المتلقي يشعر وكأنه يشاهد سياسياً على شاشة برنامج تلفازي وليس خطيباً يناقش قضايا المسلمين برؤية دينية. الخطيب تناول الموضوع من وجهة نظر تشعرك وكأنك تستمع إلى أحد المتحدثين باسم حركة (حماس) وليس إلى خطيب في اليمن ،حيث راح هذا الأخير يكيل الاتهامات للحكومات العربية بالعمالة لإسرائيل وأمريكا،وتحميلها المسؤولية عن حصار غزة ولم يكن ينقص ذلك الخطيب سوى إنهاء الخطبة بالدعوة إلى الجهاد ضد الحكومات العربية. إن الواجب على هذا الخطيب وأمثاله استثمار الإجماع اليمني الواحد ووقوفه ضد حصار غزة وخلف الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وإقامة دولته و ترسيخ هذا الإجماع وتعزيزه باعتباره صورة من صور الاتحاد, وتسخير منابر المساجد لدعوة العرب والمسلمين لمساعدة الفلسطينيين على التوحد وتجاوز الخلافات السياسية التي أدت إلى انقسامهم وتفرقهم. ألم يكن أفضل لهذا الخطيب أن يعبر عن الموقف تجاه هكذا موضوع بطريقة أخرى غير تلك الطريقة التي تحدث بها عنها والتي لا تختلف عن مناقشتها على شاشات الفضائيات، ألم يكن من الأفضل له الحديث عمّا يتعرض له المسجد الأقصى والعرب المقدسيين من محاولات لتهويد المدينة وإلغاء عروبتها وإسلاميتها، وقضايا الاستيطان التي باتت تهدد بطرد ما تبقى من الفلسطينيين في مدينة القدس ،والدعوة لمواجهة هذه المخاطر عبر الفعاليات المدنية والسياسية والإعلامية التي تساعد الفلسطينيين على مواجهة السياسة العنصرية الإسرائيلية تجاههم؟! إن حديث ذلك الخطيب عن حصار غزة والجدار المصري ،وقافلة شريان الحياة ليست إلا نموذجاً لعشرات الأمثلة التي تتكرر في مساجدنا على امتداد اليمن ،والتي تؤكد مرة أخرى وثانية وعاشرة أن منابر المساجد ستظل إحدى الإشكاليات التي تساهم في تكريس مفاهيم الانقسام والفرقة وصناعة مفاهيم الغلو والتطرف في أوساط الناس وبالذات في عقول الشباب حين تتحول إلى ساحات لنشر الأفكار والمواقف السياسية التي تخدم هذا الطرف أو ذاك بشكل لا يؤدي إلى تزييف وعي العامة فحسب ،بل إن خطورتها تكمن في أنها تحول المواقف السياسية إلى قضايا دينية مغلفة بأدلة قرآنية وأحاديث نبوية تفسر وفقاً لأهواء هذا الخطيب أو ذاك، الأمر الذي يترتب عليه اتخاذ الناس لمواقف قد تصل حد العنف دون إدراك منهم أن تلك الأفكار والقناعات التي يرسخها لديهم مثل هؤلاء الخطباء لا علاقة لها بالدين بقدر ما هي استغلال سيء للدين لخدمة السياسة . مراراً وتكراراً سنظل ندعو إلى عدم ترك منابر المساجد للغلاة والمتطرفين وخطباء السياسة، والمخاطر الناجمة عن ذلك ،ويكفينا ما أنتجته مدارس التعليم الديني الخارجة عن إشراف الدولة من عقول هشة ذهبت ضحية لتغرير المتطرفين وصناع الإرهاب سواء أكانوا المتمردين الحوثيين أم إرهابيي القاعدة.
|
آراء
يكفي سكوتاً على تسييس المنابر
أخبار متعلقة