قصة قصيرة
كانت شمس شاحبة قد أطلت ذات يوم من على سنام جبل الضباب على قرية شاحبة.. جبل الضباب الذي يخيل للرائي بأنه راهب متبتل تمر عليه السنون والوجوه وهو كعادته شامخ وثمة غيوم تغشاه، مر صباح ذلك اليوم، حتى توسطت الشمس كبد السماء، وكانت ثمة فتية وأطفال يلهون بمرح بجانب مدرسة القرية، وبينما هم في لهوهم ومرحهم.. فإذا بوجه عابس متجهم من على سور الملعب الصغير.. كانت أم أسعد، التي نادته على عجلة، خف إليها أسعد الخطي فأخبرته أن بقرة بيت أحمد الحطط قد عبثت بغرسة القات وحول الزرع المجاور لها، وأنها قد نادت فما من مجيب أوراع للبقرة.. ثم أردفت أن يا أسعد إجر بسرعة وأخرجها من الحول وأحضرها إلى البيت وأنا في إنتظارك على الطريق، هز رأسه أسعد موفقاً وشمر عن ساعديه وأطبق ساقيه صوب الحول. خشيت أم أسعد على وليدها من شر تلك البقرة النطوح، فأعتلت جداراً مطلاً على الحول تراقب أبنها وقلبها يتوجس خيفة..أقترب أسعد من الغرسة والحول وهاله واعاثت فيه من خراب، حاول أن يهشها بعصا دون جدوى، إذ جرت نحوه وهمت بنطحه.. خف مسرعاً وأعتلى جداراً مطلاً على الغرسة مشرف عليها، وهو يهش البقرة بأعلى صوته :(هجة.. هجة.. أخرجي هجة..) دون جدوى، فأخذ بضعة أحجار ورشقها على ظهرها.. وجوارها ما أن أحست البقرة بذلك حتى هاشت وناشت فأبلت الغرسة والحول هرشاً ورفساً وخراباً.. ثم رفعت رأسها وأدارته فوقعت حجرة على عينها فسالت إثرها على خدها، فأزدادت ثورة وخواراً وناشت الغرسة والحول وعبثت به أيما عبث أما أسعد فقد هاله أن أصاب عين البقرة وفقأها وما تحدثه البقرة من خراب وهو لا يملك سوى الصياح.. وبصفة ألفاظ تقال للأبقار لزجرها..أجتازت البقرة الغرسة ثم الحول وهي تهوش وتنوش ويردد خوارها صدى جبل الضباب الشاهد على قلب صغير واجف وماشية تعبث بما بقي من شحوب زرع أصفر وغرسة قات التهمها الهشيم.. وأم واجفة مجفلة خشية مما تراه من مشهد حزين عادت البقرة إدراجها وفي الطريق صادفتها أم أسعد التي تهيأت لزجرها وجرها إلى أسطبل بيتهم، لكنها تراجعت بعد أن رأت عينها تسيل على خدها وكان أسعد قد وصل مفجوعاً يقسم بأغلظ الأيمان أنه ما أصابها بقصد، طمأنته أمه وأردفت : يا بني مالخطأ خطأك، ولكن أصحابها التاركين لها تسرح وتمرح وتعبث في حقول الناس.. ثم ضمت أسعد إلى صدرها ومضيا قافلين إلى البيت..أقتربت البقرة من حوش بيت أحمد الحطط.. ورأتها زوجته تقية، وهالها سيلان عينها.. فناحت وصاحت، وما أن وصل أحمد الحطط زوجها، حتى وثبت عليه وثوب النمرة الشرسة قائلة :قتلوا البقرة يا حطط.. فقأوا عينها والله إن ما اقتصيت بعين بقرتي ما أحسبك (رجال).. وما عملوا هكذا ببقرتي إلا بظن إن ما معنا رجال..، هب الحطط كالملسوع.. قولي غير ذا الكلام يا مره.. وأخذ يتفحص عين البقرة ويزمجر بغضب ويهذي : والله وأيمان الله وأنني طالق والدنيا طالق إن ما بدلي.. ما أذبح من عورها قبل ذبحها.. أمانة إني باذبحه كان من كان.. كان يهذي ويزمجر والشرر يتطاير من عينيه وزبد الغضب بين فكيه، وبلغه بعد ذلك أن الطفل أسعد كريم هو الفاعل.. وبلغ الناس الحاضرين شر أحمد الحطط الذي ظل يردد حلفانه ويمينه على مسامع من حضر، خشي الناس الشر وبلغ الأمر شيخ القرية وعقالها فنادوا أحمد الحطط وكريم الجبري للصلح بينهما قبل نشوب فتنة، وحكموا أن الجبري متضرر مما أحدثته البقرة من خراب بغرسته وزرعه ويثمن ذلك الخراب ويكون على الحطط، وعلى الجبري تعويضه ببقرة صحيحة أو يكون الخراب مقابل عين البقرة.. كريم الجبري وقف خائر القوى عاجزاً خشية من لؤم وخبث الحطط وخضع للتحكيم، أما الحطط فظل متذرعاً باليمين الذي أغلظ فيه.. كثر الوسطاء حتى توصلوا إلى أن يبر يمينه بأن يمرر السكين على رقبة أسعد دون الإضرار به وعلى مشهد من شيخ القرية وعقالها والحضور.. وكان ذات يوم لم تنم أم أسعد ولا أبوه من أشباح هواجس من صباح سيقاد فيه كبدهم إلى مصير مجهول، وفي الصباح كان الميدان مزدحماً بالناس وأم على سور البيت وقلب طفل واجف يجر وهو يبكي ويصرخ ويفحص الأرض خشية من شر أحمد الحطط حتى تمزقت أحذيته وجر حافياً وإصفرار وشحوب يغطي سحنته ودموع وبكاء تردده أصداء الجبل وجمهرة من الناس وصبية ونساء يتلصعن من أسوار البيوت وخلف النوافذ ليشهدوا إبرار يمين الحطط أما أم أسعد فقد أوكلت الأمر لأبنتها ذات الخمسة عشر ربيعاً.. بأن تخبرها ما يحصل.. الآن يا أماه جروا أسعد سحبوه من يد أبي.. أسعد يبكي يفحص الأرض.. يردد.. بايذبحني.. باأموت.. ياأبه الحقني.. السكين باتقطع رقبتي.. الناس يقولوا ياابني مابايضرك.. تبرير يمين بس.. تبرير يمين يا أسعد.. لا تخشى يا أمه.. أبي يطمئن أسعد.. أبي يبكي.. يتوسد بجسم عمي.. عمي الثاني..تقدم من الحلقة أصبح قريباً من الحطط.. ما أدري ليش ماسك على البندقية بقوة.. إني خائفة..- الأم : هاه وماذا بعد.. كيف أسعد.. يا قلبي على ولدي.. قولي لي- الان يا أماه.. سلموا أسعد للحطط.. أقعدوه على كرسي.. سقط منه رفعوه.. سقط على الأرض.. رفعوه.. طمأنه شيخ القرية.. إيماءات منه بأنه مجرد تمثيل وتبرير يمين.. يا أمه.. أبي جرى نحو أسعد أشار لشيخ القرية وللحطط.. وسأله بالله وبدين محمد صلى الله عليه وسلم بأن إن كانت نيته الغدر.. يبرر يمينه بأبي.. لأنه المسؤول على أسعد وهو الراعي ويعمل ما بداله..الشيخ سحب أبي بيده وطمأنه والناس يسألوا الحطط بالله.. الرأفة بأسعد وما هو فيه من رعب وخوف أشد من الموت نفسه.. الحطط يمسك السكين بقوة ويمسك بذقن أسعد.. أسعد ينحب بشدة ويختنق بالبكاء والدموع الحطط.. يصرخ بهستيرية : وهذا اليمين.. برهة من الموت المرعب وأسعد جثة ترتعش بالأرض ورأسه بقبضة الحطط والدماء تضرج المكان.. ولعله رصاص ترشى الحطط وتردي عدداً من الرجال وهزج ومرج يجوب الميدان، وأب سقط مغشياً عليه.. وأم سقطت جثة هامدة حين إرتمت ابنتها عليها.. ذبحه يا أماه..ذبحه الحطط.. ومنذ ذلك اليوم توشحت القرية بالضباب وكان يوماً أسود بداية لثأر عين في رقبة..!!