استطلاع / نادرة عبد القدوس تصوير : جان عبد الحميد[c1]المشهد الأول : [/c]ليست هذه هي المرة الأولى التي نكتب فيها عن معهد الفنون الجميلة الذي يحمل اسم الفنان اليمني جميل غانم ( رحمه الله ) . ولست الوحيدة ولا الأولى ولا الأخيرة بين من تلمسوا ويتلمسون هموم المعهد، هذا الصرح التعليمي والفني والتربوي الأول في اليمن والجزيرة والخليج العربي ، بلا فخر ، إذ شهد عام 1973م ولادته في مدينة عدن على أيدي الجيل الثاني من رواد الفن الموسيقي و المسرحي و التشكيلي اليمني . وهناك من لب نداء ربه وغاب عن دنيانا الفانية ، وهناك من ينتظر ويعيش بين ظهرانينا ولكنه كالحاضر الغائب ، وآخرون من لا يزالون يحملون الراية لكنهم يشعرون بالإحباط إلا قليلا من نفحة أمل .. لأن المعهد قاب قوسين أو أدنى من الموت المؤكد . حقيقة أن لمسات جمالية مستحدثة أضفت على مبنى المعهد مسحة جمالية رائعة جعلته يبدو أجمل مما كان عليه من سنين مضت .. ساحة المعهد الخارجية وتشجيرها وتغطية أرضيتها بالأحجار الصغيرة.. طلاء الجدران بالألوان المختلفة الزاهية . واللوحات الجدارية والمجسمات الصغيرة المنتصبة على جانبي الممر الطويل المؤدي إلى مكتب إدارة المعهد ، التي نفذها طلاب المعهد تنم عن دور هذا الصرح في تخريج الكوادر المبدعة في مختلف أشكال الفنون الجميلة ناهيك عن قاعة المسرح الجديدة والبهية وخشبة المسرح الجديدة الواقعة في الدور الثاني ، الذي يوجد فيه أيضاً قسم الموسيقى .. إضافة إلى أرضية المعهد المغطاة بالسيراميك . كذلك تم ترميم وصيانة السكن الداخلي للطلاب القادمين من محافظات الجمهورية المختلفة وتوفير عدد كبير من الأسرة ودواليب خاصة بالملابس والأغراض الأخرى ، وتوفير جهاز تلفاز ومستقبل للأقمار الصناعية . يشد المنظر الخارجي والداخلي في معهد جميل غانم للفنون الجميلة الناظرين من زواره .. ولكن.. يشدهم أيضاً السكون الذي يلف المكان !! إلا من بعض حركة هنا وهناك صادرة عن موظفي المعهد، وبستاني عجوز يروي الزرع و يرتب الشجيرات وينسق الزهور النابتة ، وعدد ضئيل من الطلاب والطالبات . [c1]المشهد الثاني في مكتب نائب المدير : المعهد بدون موازنة ولا طلاب [/c]دلفت إلى مكتب نائب مدير عام المعهد ، بعد تحديد موعد مسبق لإجراء حوار معه ، أحمل سؤالاً واحداً لا غير .. وجهته إليه : " ماذا يحدث للمعهد ؟! " جلس الأخ جميل محفوظ على أحد الكراسي الأنيقة - وهي من ضمن أثاث المعهد الجديدة التي زادت المعهد جمالاً ورونقاً - مجيباً على السؤال : " صرفت وزارة الثقافة مبالغ كبيرة جداً لتبليط أرضية المعهد ولشراء أثاث جديدة وأدوات خاصة بقسمي الموسيقى والفن التشكيلي، ولترميم قاعة وخشبة المسرح التعليمي ، لإعادة الحياة إلى المعهد" . "ولكني لا أرى حياة في المعهد .. أين الطلاب ؟!" رد قائلاً : "هناك عقبات تقف عائقاً أمامنا ، أولها عدم وجود موازنة خاصة بالمعهد، وما يصرف لتسيير شؤون المعهد الإدارية والدراسية بعض المبالغ المتواضعة من صندوق التراث في وزارة الثقافة .. وهي منحة تقدر بحوالي (200.000) ريالاً شهرياً إضافة مبلغ (50.000) ريالاً من الوزارة .. وثانيها ، وهي الأكثر صعوبة ، عدم وجود إمكانية لتوفير مبالغ خاصة للطلاب القادمين من المحافظات الأخرى البعيدة عن محافظة عدن والمقيمين في مسكن الطلاب الداخلي مما يصرف لنا ، حيث إنهم بحاجة إلى إعانة مالية يومية للتغذية تصل إلى أربعمائة ريال فقط لكل فرد منهم.." . ولأن الطلاب القادمين من المحافظات الأخرى يشكلون معظم طلاب المعهد فقد أثر غيابهم عن الدراسة ، بسبب انعدام التغذية في القسم الداخلي ، على سير العملية الدراسية في الأقسام كافة.. إذ همدت الحركة في أقسام المسرح والموسيقى تماماً .. أما قسم الفنون التشكيلية فهو يسير بشكل لا باس به ، فقد رأينا عدداً من الطلاب في محاضرة لمدرسهم . عن غياب الطلاب وتوقف الدراسة يحدثنا الفنان المسرحي نائب مدير عام المعهد الأخ جميل محفوظ مفسراً : " لقد أدى غياب الطلاب إلى إرباك سير الدراسة للفصل الدراسي الثاني في المعهد .. وكنا أشعرنا وزير الثقافة الأخ خالد الرويشان وكذلك الأخ أحمد يحي الكحلاني محافظ محافظة عدن عن هذه المعضلة ، وذلك عند افتتاح مبنى المعهد بعد إعادة ترميمه وصيانته ، إلا أننا لم نستلم أي رد .. ولم نيأس فالمتابعات جارية في هذا الشأن ونأمل أن يلتفت إلينا ويتم الحل سريعاً ". وأردف قائلاً: " يعاني أيضاً المعهد من نقص في الكادر التعليمي المتخصص في مجال الموسيقى بالذات .. واقترح على وزارة الثقافة رفد المعهد بكادر مؤهل من بعض الدول العربية ، لأن اليمن تفتقر إلى المؤهلين علمياً في هذا المجال، خاصة بعد أن غيب الموت عدداً من الموسيقيين المؤهلين اليمنيين وكانوا من ضمن هيئة التدريس في المعهد " . واستطرد الأخ جميل محفوظ قائلاً : " ولكننا في إدارة المعهد نعمل حالياً على توسع الإدارة مواكبة لخطط المعهد المستقبلية ، حيث سيتم استحداث إدارات جديدة منها التخطيط ، والتوجيه الفني ، والعلاقات العامة وغيرها .. كما ستشهد الإدارة تغييراً شاملاً في أسلوب عملها ، إذ ستكون الإدارة رقمية " . [c1]آمال وطموحات[/c]" وما هو الجديد الآخر ؟ " سألته.. فرد قائلاً بانتشاء : " نحن نبحث دائما عن وسيلة للارتقاء بالمعهد وإخراجه من الأزمات المالية التي تواجهه ، وفي ذات الوقت نبحث أيضاً عن منفذ ليلعب المعهد دوره الطليعي في مجال الفن الرفيع الذي يخدم المجتمع ويعود بالفائدة عليه، وانطلاقاً من ذلك تقوم الإدارة حالياً بدراسة إنشاء أقسام جديدة في المعهد .. فعلى سبيل المثال هناك تصور بإنشاء قسم الديكور والزخرفة ، والرسم على السيراميك ، ونهدف بذلك إلى رفد المصانع المحلية بالكادر اليمني المؤهل في هذا المجال وإلى تلبية حاجة السوق إلى هذه المنتجات الفنية إضافة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المنتجات وعدم استيرادها من الخارج .. وقد سبق أن رفدنا القطاع الصناعي الخاص بعدد من مخرجات المعهد من قسم الفنون التشكيلية " . وأضاف قائلاً : "وتعكف الإدارة حالياً على وضع اللمسات الأخيرة لتنظيم دورات تخصصية مسائية لعدة أشهر بعد التنسيق مع الأخ محافظ محافظة عدن " . [c1]نداء للسلطة المحلية[/c]ومن المفارقات الغريبة أن قسم الفن المسرحي في المعهد عدد المدرسين فيه كافٍ ويغطي احتياجاته ، إلا أن عدد الطلاب قليل جداً وصل إلى خمسة طلاب من أصل (13) طالبh وطالبة، أما عن قسمي الفن التشكيلي والموسيقي فهما اللذان يعانيان نقصاً حاداً في المدرسين ، رغم أن الطلاب عددهم كبير إلا إنهم غائبين بسبب عدم توفر التغذية فعادوا إلى مناطقهم البعيدة خارج محافظة عدن .. وسبب قلة المدرسين في المعهد هو عدم وجود المدرس البديل .. فكم من مدرس كفء ومؤهل علمياً في القسمين المذكورين انتقلوا إلى رحمة الله وهناك من غادر إلى المهجر والبعض انتهت فترة خدمته الوظيفية وتقاعد عن العمل .. في هذا الصدد يقول الأخ جميل محفوظ: " هناك خطة الآن لابتعاث مدرسين من المعهد إلى الدراسات العليا بالتنسيق مع وزارة الثقافة " . إلا أنه أضاف متسائلاً : " لا ندري حتى اللحظة لماذا لا يتم معاملة مدرسي المعهد كبقية المعاهد المهنية الأخرى في بلادنا بحسب قانون المعلم .. إذ يوجد فارق كبير في الدرجة الوظيفية حسب التخصص وفي الأجور.. والأخ رئيس الوزراء يعلم بهذه القضية وأوصى بمعالجتها .. وتم على ذلك رفع البيانات المطلوبة ولكن لا زالت القضية بدون حل منذ أكثر من ثلاث سنوات رغم المتابعات المستمرة .. وبهذا الخصوص نوجه نداء إلى السلطة المحلية في محافظة عدن من خلال صحيفتكم الموقرة لدعمنا ومساندتنا في حقنا المشروع في مساواتنا ببقية المعاهد الفنية والمهنية اليمنية ". [c1]المشهد الثالث والأخير : معهد الفنون والارتقاء بالفن [/c]وأكد الأخ جميل محفوظ على نجاح المعهد مؤخراً في الحصول على الاعتراف الرسمي من قبل وزارة التربية والتعليم باعتماد شهادة المعهد مساق الثانوية العامة و سيتحصل الطلاب كافة الذين تخرجوا من المعهد منذ عام 1994م حتى الآن على هذا الاعتراف " . في الأخير إن كانت لنا كلمة فإننا نؤكد ضرورة تخصيص موازنة سنوية مستقلة متصاعدة لمعهد جميل غانم للفنون الجميلة ، وعلى ضرورة الاهتمام بقضية الطلاب الملتحقين في المعهد والقادمين من محافظات الجمهورية المختلفة ، والذين يحلمون بتحقيق طموحاتهم في مجال الفن بمختلف أقسامه ، ومن الخطأ تجاهل المواهب الفنية التي وهبها الله لهؤلاء الشباب المتطلعين إلى تنميتها وتطويرها.. والفن الجميل الملتزم بالقواعد والقوانين الفنية يخدم المجتمع ويسمو بالإنسان ويرتقي بالروح الإنسانية، لذا فإن الفن الجميل فن إنساني رائع. ومعهد الفنون الجميلة في عدن الصرح الفني والتعليمي والتربوي الوحيد في بلادنا يؤدي مهمة تنمية الموهبة الفنية ، ويرفد سوق العمل بمخرجاته المؤهلة ، ويقوم بخدمة الفن الجميل الراقي والهادف ، وحكمة قيلت منذ زمن بعيد لا أظن أن اثنين يختلفان فيها وهي " إن كنت تريد أن تعرف شعباً اعرف فنه " . ونحن في ردهة الطابق العلوي من المعهد ، حيث غرف الدراسة المسرحية والموسيقية كانت نغمات موسيقية من آلة بيانو تناهت إلى مسامعنا .. فعلت الدهشة وجوهنا، فالطلاب غائبون والهدوء يلف المكان ، وكانت تلك النغمات كحفيف ماء رقراق ينساب بنعومة إلى آذاننا .. فحثثنا الخطى نبحث عن مصدر الصوت الموسيقي الجميل.. ووجدناه ، حينها زادت دهشتنا ، وكمن اكتشف سراً ، فغرنا أفواهنا وضحكنا كالأطفال.. وكان هو يدق بأصابعه بنعومة على مفاتيح البيانو في غرفة درس الموسيقى الفارغة إلا منه .. إنه سائق الصحيفة الشاب "مازن" الذي أوصلني والمصور الصحفي المخضرم " جان " إلى المعهد ! وعرفنا منه بعدها إنه كان عازفاً محترفاً على آلة الطبل (درامز) في فرقة موسيقية شابة كان عضواً فيها، قبل أن يعمل سائقاً في صحيفتنا الغراء خلفاً لوالده المتقاعد . وأنا أنهي تجوالي في هذا الصرح الجميل ، الذي كان ذات يوم قريب يعج بالطلاب والطالبات، تنساب إلى أذني من ماض رائق صوت موسيقى يصدح من جنبات المعهد .. بيانو.. عود .. كمان .. وكأنني أسمع أصوات الطلاب المختلطة بأصوات مدرسي الموسيقى وهم يلقنونهم قوانين الموسيقى والإنشاد العربي الأصيل ومخارج الألفاظ .. وفي غرف دراسية أخرى أرى مدرسي الفن التشكيلي أمام طلاب هذا الفن، ومدرسو المسرح هم الآخرون على خشبة مسرح المعهد مع طلاب الفن المسرحي .. الكل منهمك في عمله .. وأفقت فجأة على صوت زميلي "جان" وهو يسألني متأثراً " ألا تذكرين كيف كان المعهد مكتظاً بالطلاب والمدرسين وكيف كانت الحركة فيه تدب ؟؟" نظرت إليه وابتسامة حزينة على شفتي .. هززت رأسي بالإيجاب.. ومضينا قافلين إلى مقر صحيفتنا ..
|
ثقافة
معهد جميل غانم للفنون الجميلة .. والصراع من أجل البقاء
أخبار متعلقة