
ففي الوقت الذي كان يستعد لعقد مؤتمره الصحفي في قصر بعبدا بعد لقائه الرئيس اللبناني جوزيف عون، إذا به وبدون مقدمات يصف توماس باراك الصحفيين الذين حضروا لتغطية أخبار زيارته بـ(أصحاب التصرفات الحيوانية). بالنسبة للصحفيين، فقد شعروا بالإهانة لا ريب في ذلك، فلم يسكتوا لما تعرضوا له من التنمر الفوقي والمتعالي لهذه الشخصية التي تمثل نموذجا واحدا فقط لما بدأت الصحافة الأمريكية تحذر من خطورته.
ففي مقال له نشر في الـ”نيوز ويك”، حذر الملياردير ورجل التقنيات الشهير كريستوفر بوزي من أن أمريكا دخلت المرحلة الفاشية في عهد الرئيس المحافظ دونالد ترامب. فهي - حسب رأيه - قد نفذت انقلابا ذاتيا على الدستور الأمريكي، بينما تقف القيادات الديمقراطية موقف العاجز عن مجابهة ذلك الانقلاب. من وجهة نظر بوزي، فإن الأمر لم يعد مجرد تهديدات محتملة للنظام الديمقراطي الأمريكي بل اصبح واقعا معاشا، وضرب مثالا لذلك بالعاصمة واشنطن، حيث يشكل السود نصف سكانها تقريبا تم تجريدها من حكمها الذاتي، وفي ولاية فلوريدا تم إنشاء “معسكر اعتقال”، أما وزارة العدالة فقد حُولت إلى جهاز لقمع المعارضين. وضرب بوزي أمثلة بالجهات والهيئات التي يتم استهدافها كوكالات المحاماة وشبكات التلفزة وكذلك المسؤولون المنتخبون الذين يعبرون عن اعتراضهم.
التحذيرات من خطورة بروز الفاشية ليست مقصورة على بوزي وحده، فهناك الكثير من المقالات العلمية والتحليلات الفلسفية المتسقة التي استشعرت تلك الخطورة. فمثلا تقول هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة إن وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت كانت قد حذرت من خطر الفاشية في البلاد.
وقالت كلينتون، في كلمتها بمناسبة إحياء ذكرى أولبرايت في الأمم المتحدة: “لقد كانت تعرف أكثر من الجميع، وأرادت لنا أن نعرف، فكتبت كتابا عن الفاشية، كيف يمكن أن تظهر هنا (في الولايات المتحدة) أو في أي مكان آخر في العالم”.
بالنسبة للصحفيين، لم يبلعوا الإهانة ولكنهم عبروا عن احتجاجهم وفقا لقدرتهم بأضعف الإيمان، فقد أصدرت نقابة محرري الصحافة اللبنانية بيان استنكار لما جاء في تصريحات المبعوث الأمريكي، معتبرة أن “الأمر غير مقبول ومستفز”، وطالبت باراك “باعتذار علني”، وهددت بمقاطعة فعالياته إذا لم “يُصحَّح الموقف”.
اتحاد الصحفيين في لبنان كان أكثر طموحا في رد فعله، فقد طالب بتقديم اعتذار رسمي وعلني عمّا بدر من المبعوث الأمريكي تجاه الصحافيين، مطالباً السفارة الأمريكية في بيروت بموقف تجاه هذه التصرّفات غير المقبولة، كما دعا وسائل الإعلام اللبنانية والعربية إلى مقاطعة أنشطته ومؤتمراته الصحافية إلى حين اعتذاره. كما عبرت الرئاسة اللبنانية عن أسفها “للكلام الّذي صدر عفوًا عن منبرها من قبل أحد ضيوفها اليوم”. إلى هنا وانتهت ردود الفعل. البقية لا يعنيهم ما حدث.
الإهانة الأكبر وجهها باراك إلى شعوب المنطقة وحكامها، ويبدو أنهم قد ابتلعوها عن طيب خاطر (عرفانا للعمدة الجديد)، فلم نسمع أحدا آخر رد عليه عندما قال للصحفيين: “تصرفوا بتحضر، بلطف وتسامح. لأن هذه هي المشكلة الحقيقية فيما يحدث في المنطقة”. إننا، يقول باراك: “في اللحظة التي يبدأ فيها الأمر بالفوضى أو بالسلوك الحيواني، سننهي كل شيء”.
ما المقصود باللطف والتحضر في هذه الاستعارة؟؟؟
في ظني أن تلك العبارات ليست موجهة للصحفيين حصرا، إذا ما ربطنا خيوط تصريحات الصهاينة الأمريكيين ببعضها، صريحها ومستترها، بدءا من الرئيس السابق بايدن الذي قال: “ليس شرطا أن تكون يهوديا لتكون صهيونيا”، فالعبرة هنا ليس بالانتماء العرقي بل بالتنشئة على المذهب المسيحي الصهيوني الأمريكي. وفي تصريحات سابقة لباراك قال “إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، والآن سوريا تتجلّى بسرعة كبيرة، وإذا لم يتحرّك لبنان، فسيعود إلى بلاد الشام من جديد”. وإذا أضفنا على سبيل التسلية السوداء تصريح مايك هاكابي السفير الأمريكي في إسرائيل الذي قال: “لا يوجد شيء يدعى فلسطين أو الضفة الغربية”، وهو نفسه قد صرح قبل ذلك أن “ترامب يؤثر على الصراع في الشرق الأوسط حتى قبل تنصيبه كرئيس للبلاد”، مضيفًا أنه يرى دولًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط تحاول فجأة تغيير سلوكها لأنها تعلم أن هناك عمدة جديدا في المدينة فعل لإسرائيل مالم يفعله غيره من الرؤساء، كما يصرح ترامب باستمرار.
إذن، فعبارات توماس باراك تتجاوز تهديد عدة صحفيين إلى شعوب وربما حكام بأن رفض الاحتلال ومطالب الاحتلال وأهداف الاحتلال هي فوضى، وهم الفاشيون مستعدون لإنهائها، ليس بالإبادة والتجويع فقط.