هؤلاء لا يشتمون، بل “يبتسمون بسُمٍّ”.
لا يرفعون أصواتهم، بل يُخفضونها ليبدو كلامهم أكثر اتزاناً، بينما هو في حقيقته أكثر غدراً.
يتحدثون عن “الوحدة”، ويقصدون “التفكيك”، يرفعون شعار “التنوير”، ويقودون الناس إلى العتمة ببطءٍ مدروس.
“نحن مع الجنوب، ولكن...”
وتلك الـ “لكن” الخبيثة كفيلة بإطلاق ألف شكٍّ وشكٍّ.
فما يأتي بعدها ليس رأياً، بل عملية تشكيكٍ مدهونة بالعسل في كل منجز، وذبحٍ بطيء لروح الثقة.
إنهم لا يحاربونك بالسيف، بل بالكلمة الملتبسة.
لا يسألون ليعرفوا، بل ليسحبوا السجادة من تحت قدميك وأنت تبتسم.
يتظاهرون بالحياد، لكن كل فقرةٍ من خطابهم تصبّ في اتجاهٍ معلوم، مرسومٍ بعناية، كأنها جزء من سيناريو طويل يُراد له أن ينتهي بانقسام الصف، وتنافر القلوب، وضياع البوصلة.
هم “معارضة الظل” التي تبتسم في وجهك وتطعنك في خاصرتك، ثم ترفع يدها قائلة: “لم نكن نقصد الإساءة”
هؤلاء لا يحتاجون إلى منبر صاخب، بل إلى جمهورٍ ساذج يصدّق أن الابتسامة دليل البراءة.
وما أخطرهم حين يُلبسون الوقيعةَ ثوبَ النصيحة، وحين يجعلون من التلاعب بالمفردات فضيلة إعلامية.
إنهم يعرفون تماماً أين يضعون النقطة وأين يتركونها معلّقة، وكيف يصوغون الجملة لتبدو بريئة وهي تُدميك.
الإعلام الخبيث لا يعيش في الضوء، بل يتغذى على الضباب، حيث يصعب على الناس تمييز الظل من الحقيقة.
ولذلك، فإن أخطر ما يفعله هذا الصنف ليس الإساءة المباشرة، بل زرع الشك في كل شيء؛ في القائد، في المؤسسة، في الهدف، حتى يصبح الجمهور في النهاية بلا ثقة ولا يقين، كمن يسير في طريقٍ بلا علامات.
ولأن السم لا يُرى في العسل، فإن العلاج الوحيد هو الوعي، لا الصراخ.
أن نفكك الخطاب كلمة كلمة، وأن نسأل: ما الذي يُراد من وراء هذا الهدوء المصطنع؟ وما الغاية من هذه “البراءة المنمقة” التي تسبق كل خنجر؟
فالكلمة الخبيثة لا تُواجه بالمنع، بل بالفضح.
والوقيعة لا تُهزم إلا بالصدق.
أما أولئك الذين “يُجمّلون الخيانة بالنوايا الطيبة”، فليسوا إعلاميين، بل موظفو هدمٍ يتقنون التمثيل على مسرح الوطن.
وفي زمن كثرت فيه الأصوات وقلّ فيه الصدق، صار من الضروري أن نُصغي لا لما يُقال، بل لِما يُراد أن يُقال.
فليس كل من يتحدث عن الوطن مُخلصاً له، ولا كل من يرفع علم الجنوب، قلبه معلق بعودته، فبعض الأعلام ترفع للتجارة لا للكرامة، ولا كل من يبتسم صادق النية؛ فبعض الابتسامات مجرد “خناجر ناعمة”.
