تختبر المجتمعات اليوم مدى نضجها السياسي، من خلال استيعابها لطبيعة العلاقة التي تربط الأفراد برجالات الدولة ومسؤوليها. فحين تُختزل الدولة في شخصٍ أو تُختطف مؤسساتها لحساب إرادةٍ فردية، نكون أمام نظامٍ شخصانيّ هش مهما بدا متماسكًا. أما حين تُدار الدولة وفق القانون وتُحاسَب مؤسساتها على الأداء، نكون أمام نظامٍ مؤسسيٍّ راسخ يحميه وعي المواطن قبل نصوص الدستور.
من الدولة الأبوية إلى الدولة المؤسسية
في كثير من مجتمعاتنا ما زال الوعي السياسي أسيرًا لفكرة «الدولة الأب»، حيث يُنظر إلى الحاكم كراعٍ ومُحسنٍ، لا كموظفٍ عامٍّ خاضعٍ للمساءلة. تُقدَّم الإنجازات اليومية على أنها مكرمات شخصية، ويُقاس الولاء بمدى القرب من مركز القرار لا بمدى احترام القانون. وهكذا تُبنى علاقة وجدانية بين المواطن والسلطة قوامها «الحب والولاء»، بدل أن تقوم على المسؤولية المتبادلة والعقد الاجتماعي الذي يربط الجميع.
لقد قال ماكس فيبر إنّ الدولة الحديثة «تقوم على الشرعية القانونية لا على الولاء الشخصي»، وإنّ تماسكها مرهون بإيمان الناس بأنّ السلطة تُمارس وفق قواعد موضوعية لا وفق أهواء الحكام. فحين تُدار الدولة بالهوى تتآكل الثقة ويُستبدل المواطن بالرعية.
لقد أثبتت تجارب التحول السياسي في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا أن الخروج من عباءة الدولة الأبوية كان بداية الطريق نحو ترسيخ مفهوم «المواطنة الفاعلة» التي تُقيم الدولة لا على الشخص، بل على العقد العام. فكلما تقلصت مساحة التقديس وتوسعت دائرة المشاركة، ازدادت قوة المؤسسات وثقة الشعوب بها.
الديمقراطية ومبدأ التقييم المؤسسي
في الأنظمة الديمقراطية لا يُسأل المواطن إن كان يحب رئيسه، بل إن كان يؤيّد سياساته. فالمسؤول يُقيَّم بميزان الأداء لا العاطفة، ويُحاسَب وفق القانون لا وفق الشعبية. وتُقاس كفاءته بقدر التزامه بالمؤسسية والشفافية وقدرته على تحقيق العدالة والتنمية.
وفي هذه الأنظمة، تُترجم المواقف السياسية عبر صناديق الاقتراع، لا عبر التطبيل أو الخصومة. فالتجديد للقائد والمسؤول أو استبعاده يتم بناءً على تقييمٍ موضوعيٍ لسياساته العامة، لا على الانفعالات. وهكذا تتحوّل العاطفة إلى وعي، والانفعال إلى قرارٍ سياسي ناضج، وتبقى الدولة فوق الجميع، ويظل الولاء فيها للنظام الدستوري لا للأشخاص.
فالشرعية في الديمقراطيات ليست تفويضًا مطلقًا، بل عقدٌ زمنيٌّ مشروط بالأداء، يتجدد حين تنجح السياسات ويتراجع حين تُخفق. وبهذا يصبح التصويت فعل محاسبة لا مجاملة، وتتحول الانتخابات إلى امتحانٍ متكررٍ للثقة العامة في مؤسسات الحكم.
كما قال مونتسكيو: «لكي لا يُساء استخدام السلطة، يجب أن تحد السلطة من السلطة». فالمساءلة الدورية ضمانةٌ للاستقرار، لا تهديد له.
أزمة الشخصنة في الوعي العربي
في المقابل، لا تزال ثقافتنا السياسية، في كثير من الأحيان، تُقوّض فكرة المؤسسة وتستبدلها بفكرة «الزعيم». فالمسؤول يُمجّد لأنه «تكرّم» ببناء مدرسة أو إصلاح طريقٍ من مال الدولة، وكأن ذلك منّة لا واجبًا. وهكذا تضيع الحدود بين الواجب والمنة، وبين الأداء والولاء، ويغدو العمل العام مجالًا للمديح لا للمساءلة.
ولا يقتصر الأمر على دوائر الحكم؛ إذ يتسرب إلى الإعلام الذي في جوهره، كما يقال، ضمير الأمة. فالإعلام هو سلطة رابعة مستقلة في الديمقراطيات الراسخة، يراقب ويحاسب، لكنه يتحوّل عندنا إلى ملحقٍ تجميليٍّ للسلطة وديكورٍ لها بدلا من أن يكون عينًا عليها. وبذلك تفقد الكلمة وظيفتها النقدية، وتتحوّل إلى أداة تزويقٍ بدل أن تكون أداة تنوير.
القانون معيار البقاء
الأنظمة التي تُبنى على الولاء الشخصي تبدو متماسكة ظاهريًا، لكنها هشة في جوهرها؛ تزول بزوال رموزها، وتنهار بتغير توازناتها. أما الدولة التي تُبنى على المؤسسات فتبقى لأنها تُدار بالقانون، وتُحكم بالمساءلة، ويُصان فيها التداول السلمي للسلطة بوصفه معيار النضج السياسي.
وقد لخّص توماس هوبز جوهر العقد الاجتماعي بقوله: «يمنح الناس سلطتهم للحاكم كي يعيشوا في أمان، لا كي يعبدوه». فحين تنقلب هذه المعادلة تتحول السلطة من أداةٍ لتنظيم المجتمع إلى أداةٍ لإخضاعه.
فالمؤسسات التربوية والإعلامية تلعب دورًا محوريًا في غرس هذا الوعي الجديد، إذ تُعلّم الأجيال أن الوطنية ليست في ترديد الشعارات، بل في احترام النظام العام، والمطالبة بالشفافية، وحماية المال العام. فالمجتمع الذي يربي أبناءه على النقد المسؤول يصنع مواطنين أحرارًا لا رعايا مطيعين.
نحو وعيٍ مدني جديد
ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم ليس مزيدًا من الولاء للأشخاص، بل إيمانًا أعمق بقيمة النظام العام والالتزام المؤسسي. فالمسؤول يُحترم بقدر ما ينجز، ويُحاسَب بقدر ما يُقصّر، والمواطنة لا تُقاس بمدى الحماس في تمجيد السلطة، بل بمدى الحرص على صونها من الفساد والانحراف. احترام القائد لا يعني تأليهه، ونقده لا يعني معاداته، فكلاهما وجهان لوعيٍ مدنيٍ راقٍ.
خاتمة
الدولة التي تُبنى على مشاعر الولاء تزول بزوال العاطفة، أما الدولة التي تقوم على سيادة القانون فتبقى لأنها تُحكم بالعقل لا بالهوى. إنّ نهضتنا السياسية لن تبدأ إلا عندما ندرك أن حب الوطن لا يُقاس بتمجيد الحاكم، بل بالمطالبة بمؤسساتٍ تُؤدّي واجبها وتُحاسَب على تقصيرها. فحين يكون الولاء للوطن لا للحاكم، وللدستور لا للشعار، تستقيم الدولة ويُكرَّم الإنسان، ويُصبح القانون هو السيد الوحيد للجميع.
