وربما تمكنت صنعاء المدينة في مراحل مختلفة من مراحل وجودها ان تواصل التمسك بثقافتها ومنطقها كمدينة وان تستند عليها في مقاومة ورفض مظاهر وثقافة الهمجية والتسلط والوحشية والابتزاز ومظاهر الفوضى والتسلح ومنطق القوة والسيطرة والاستبداد.
وقد أدى اتخاذها كمركز للحكم منذ فجر الخلافة الإسلامية الأموية والعباسية والفاطمية والامامية والعثمانية وحتى الجمهورية إلى خوض مواجهات متعددة حافلة بالمآسي والآلام والتضحيات، والتي استطاعت في معظم تلك المواجهات الخروج لتستعيد من جديد عافيتها كمدينة قادرة على البقاء والاستمرار والتنوع، وخصوصاً تلك المواجهات والمخاطر القادمة إليها من عواصم الحكم الإسلامي في الشام ومصر واسطنبول.
إلا ان المخاطر الأشد وطأة ومعاناة عليها كمدينة والتي لازمتها ومازالت تلازمها إلى اليوم هي الكيانات المشيخية القبلية المحيطة بها، والتي لم يقتصر دورها على معاداتها كمدينة وإنما كقوى أهلتها طبيعة تشكلها لأن تكون حاضرة لعقد تحالفات مع ولصالح أي قوى خارجية أو داخلية للكر عليها واستباحتها والتطفل عليها دون أن يعنيها من سيحكم وكيف بقدر ما يعنيهم ما سيجنونه من مكاسب وأولها وفي مقدمتها اطلاق ايديهم على مناطقهم ورعاياهم وعدم التدخل في شؤونهم، وهو الأمر الذي ابقى هذه القوى القبلية المتحصنة بالعزل والتوحد لتكون المصدر الدائم والمستمر لا لتهديد وجود صنعاء كمدينة أولاً وكمركز أو عاصمة للحكم ثانياً، إنما كدولة ووطن وشعب يتجاوز وجودها ومناطق تمركزها.
ولن يتقلص خطرها هذا إلا بوجود دولة قادرة على أن تفرض سيطرتها على كامل مناطق الدولة وان تلتزم بفرض القوانين والأنظمة عليها دون تمييز وان تبدأ أولاً وقبل كل شيء بمنع اقتناء وحمل السلاح تحت أي حجة أو مبرر، وان توصل الخدمات الأمنية والاقتصادية والخدمية والتعليمية إلى كل منطقة وقرية وتجمع فيها.
وبدون ذلك فان ما شهدته صنعاء من تعد وتهديد واستلاب طوال حقب التاريخ الماضية وما تشهده اليوم تحديداً سوف تشهده غداً ايضاً وعلى نحو يصعب وصفه أو تخيله.