هذه الأراضي ليست فراغًا عمرانيًا ولا احتياطيًا يمكن استهلاكه عند الحاجة. إنها بنية تحتية بيئية كاملة، تؤدي وظائف حاسمة في توازن السواحل، وتنظيم المياه، وامتصاص الملوثات، وحماية التنوع البيولوجي، وتشكل عقدة مركزية في مسار الطيور المهاجرة بين آسيا وإفريقيا. وأي مقاربة تتجاهل هذه الحقيقة تبقى محكومة بالفشل، مهما حسنت نواياها.
الإجماع العلمي واضح: إنقاذ هذه المنظومات لم يعد ممكنًا عبر بيانات تحذيرية أو تدخلات جزئية. المدخل الوحيد القابل للاستمرار هو نقلها من هامش الإدارة المحلية المرتبكة إلى إطار حماية دولي ملزم، عبر اتفاقية رامسار. غير أن هذا الانتقال يبدأ بقرار سيادي واحد مؤجل منذ سنوات: الترسيم القانوني النهائي لحدود الأراضي الرطبة.
اتفاقية رامسار (Ramsar Convention)، المعتمدة عام 1971، تعد أقدم نظام دولي متكامل لحماية الأراضي الرطبة ذات الأهمية العالمية، وتقوم على منطق واضح: لا حماية بلا حدود، لا اعتراف بلا حجية قانونية. فقبل أي إدراج، تشترط الاتفاقية أن تكون الدولة قد حددت بدقة النطاق الجغرافي للموقع، وحدود التزامها بحمايته، والجهة المسؤولة عن إدارته.
انضمام اليمن إلى الاتفاقية، وإدراج أراضي عدن الرطبة ضمن قائمة رامسار، من شأنه أن يعيد تعريف موقع هذه الأراضي في الخارطة البيئية والسياسية معًا. فهو يمنحها اعترافًا دوليًا، ويضعها تحت الرقابة البيئية العالمية، ويفتح قنوات الدعم الفني والتمويلي، ويُلزم الدولة، أمام المجتمع الدولي، بالحفاظ عليها ومنع تدهورها. والأهم أن هذا الإدراج ينقلها من كونها ملفًا محليًا ضعيفًا إلى التزام دولي لا يمكن الالتفاف عليه.
بيولوجيًا، لا تعاني أراضي عدن الرطبة من نقص في الأهلية. المعايير التسعة التي تعتمدها رامسار لقياس الأهمية الدولية تُظهر بوضوح أن هذه المواقع تستوفي عددًا كبيرًا منها. فهي تمثل نماذج نادرة للأراضي الرطبة الساحلية في الإقليم، وتحتضن أنواعًا مهددة بالانقراض، وتعمل كملاجئ حاسمة في المراحل الحرجة لدورات حياة الطيور والأسماك، إضافة إلى استضافتها المنتظمة لأعداد ضخمة من الطيور المائية المهاجرة. عمليًا، تستوفي هذه المواقع ستة معايير عالمية على الأقل، وهو ما يضعها في صدارة المواقع المؤهلة للإدراج.
لكن المفارقة القاسية أن هذه القيمة البيولوجية العالية لا تترجم إلى حماية فعلية. والسبب ليس علميًا ولا فنيًا، إنما قانوني بحت. فغياب الترسيم الواضح للحدود يحرم هذه الأراضي من أي حجية قانونية، ويجعلها عرضة للتداخلات، ويعطل إعداد نموذج معلومات رامسار، ويمنع تحديد منطقة الالتزام التي تلتزم الدولة بحمايتها أمام المجتمع الدولي.
الترسيم القانوني ليس بندًا إجرائيا يمكن تأجيله، ولا يقبل التجاوز تقنيًا؛ لأنه الشرط المؤسس الذي تُبنى عليه كل خطوات الحماية اللاحقة. بدونه تبقى الأهلية البيولوجية مجرد توصيف علمي بلا أثر، وتظل الأراضي الرطبة مكشوفة أمام الاستباحة المقننة.
اليوم، تقف عدن أمام لحظة فاصلة. إما أن يُستكمل الإطار القانوني لترسيم حدود محمياتها الرطبة الخمس، فتنتقل من مسار التآكل إلى أفق الحماية الدولية، أو يستمر الفراغ القانوني ليحول هذه المواقع إلى خسارة بيئية نهائية. وبالتالي، هذا الترسيم هو آخر فرصة واقعية لوقف الإبادة الصامتة وفتح بوابة رامسار من موقع قوة لا من موقع إنقاذ متأخر.
*صحفي علمي متخصص في قضايا المناخ والبيئة
رئيس مؤسسة الصحافة الإنسانية (hjf)
