بناء شعر الغزل العامي
د . أحمد سعيد عبيدونلقد شاع شعر الغزل العامي وانتشر حتى غدت له حدود ورسوم وصيغ وقوالب, يلتزم بها شاعر الغزل ويجدد داخل دائرتها ولكن ما تلك القواعد التي ينبني على نظامها شعر الغزل العامي؟. هذا ما سوف نتأمله من خلال ديوان المرحوم عمر باعباد: (دندنات وجدانية).تتكون قصيدة الغزل العامية من طرفين مختلفين منفصلين هما : (المحب) و(المحبوب) تربط بينهما علاقة معنوية ما , يسعى فيها (المحب) للوصول الى المحبوب وامتلاكه, في حين يحافظ (المحبوب) على بقائه منفصلا بعيدا عن المحب, وتقع قصيدة الغزل في هذه المسافة : (الزمنية – المكانية – النفسية) بين ذينك القطبين فاذا ضاقت المسافة بينهما اقترب (المحبوب) من (المحب) اقترابا تخصب فيه العلاقة بينهما, وتنبت من زوج بهيج, فيعود النصف المنفصل الى نصفه الآخر وتزهر بينها اللغة وتخضر مديحا, وثناء في المحبوب, وكأنما هما – في الاصل – واحد فانفتقا فلم تعد للمحب من حياة الا في البحث عن نصفه المفصول, تماما كما ترسم الآية الكريمة العلاقة بين السماء والارض في قوله تعالى : "او لم ير الذين كفروا ان السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي" .. هكذا في لحظة الوصل تجود السماء على الارض وتمد اليها خيوط الماء – والماء رمز الاتصال والخصب والحياة – كما يقول ابو تمام:إن يختلف ماء الوصال فماؤناعذب تحدر من غمام واحدفنكون مع النبات , والغصون , والبساتين , والثمار , والورد, والزهور, والخضرة, في لحظة اللقاء والاتصال يقول: في البساتين اقطف في الغصون الطوالي ساعة امبا وساعة تين أو ليم حاليأصبح روضنا به فريح يتمايل بورد الربيع ومعطر بزهر الأقاحمن مجاني شعابك خلنا نفطف الاثمار هي والورودبا يتم فرحنا في هني باتخضر قلوب العاشقين المحبة عطاء دايم ولينحبيبك لو عطى لك اعتبارك وجب حبه ولا في ذاك عارويقطف لك وتقطف له زهارك ولاتنساه في ليل أأو نهارمتى راحتي وبناني تهز تفاح لبناني ترجرج فوق غصن البانفالمثالان الاولان فيهما تواصل واضح تدل عليه الكلمات (اصبح) و(اقطف) فهي تدل على فعل اللحظة الحاضرة, وهو امر نادر لان الاصل هو وضع الانفصال. اما الامثلة الباقية فان الوصل فيها مأمول قريب لم يتم بعد الا في التمني يدل على ذلك الكلمات : (خلنا), (بايتم) (لو عطى), (متى).اما لحظة الفصل فنجد سماء (المحبوب) تبخل على (المحب) وتتشقق ارضه وتهب عليه العواصف والاعاصير, ويفقد الظل وتحرقه شمس المحبة, ويقتله الظمأ كما نجد في الامثلة:ماشي مطر يطفي لهيبيمن بروقك والرعودما شفت شي مسيال سالولاكرع صافي زلال ما زلت واقف في الشموس المحرقة ما شي ظلال في البحر ترمي بي ونا ما اهنأ بشربي سوى من قاطركفشلت اساليبي وغب الغيث شعبي زمن من ماطرك تبرق ولكن الهوى لاهب يطير بالسحاب اذا انغلق بابك لنا باينفتح سبعين بابيا ناسي المعروف وينك وين ماي اللي جرى لي كنت به كلما ضميت اسقيكإذا زعزعك او هزك عصارك تلفت كلها الدنيا عصارعاصف يهب يعتكر ما تسمع الصائح ينذر وينهم نهيمواذا كان الاتصال ينتج الثمار .. فإن الانفصال ينتج الشوك والسلم :ولي ذروا في الذبر وضعة منها لازم يصربونليش يا ساجي العينين من أول السكة غرست السلملو هوى قلبك خصبكنت با تبدي شعورك في رسائل تنكتبلو هوى قلبك خصب كنت باتنشر عبيرك ساعة النسمة تهبهكذا لم تعد اللغة تغزل الثناء في هذه اللحظة لحظة الانفصال وانما اللوم والعتاب والتأنيب وهناك درجات مختلفة من لحظات الاتصال والانفصال بين هذين القطبين المحب والمحبوب ففي مستوى الاتصال نجد : المديح, والتودد, والملاطفة, والتحبب والمناجاة .. وفي مستوى الانفصال نجد : العتاب, واللوم, والنصيحة, والتحذير, والتقريع, والهجاء.. وان ما يحدد هذه الدرجات (الفنية – النفسية) من الاداء الغزلي هي (الاسماء) فنحن في مستوى الاتصال امام اسماء جميلة مرغوب فيها تغزل الثناء للمحبوب مثل: فائق الحسن المختم / يا فاتني / يا الغالي الزين / يا حلو يافاتن / يالزين. اما لحظة الانفصال فنحن مع اسماء مختلفة تدل على انفصال يمكن ان يعود الى اتصال بحيث يمكن اصلاح الامر بين المحب والمحبوب ويظهر ذلك في اسماء مثل : ياخيل يا جامح / يا ريم البوادي / يا بدر ياساري / ياوعل. اما اذا وصلت درجة الانفصال الى حد الاخلال بقوانين الغزل وقيمه, فان حبال الوصال تنقطع, ونقف امام لحظة ادانة وعداء قد تصل الى حد الاهانة او السباب وهذه آخر درجات العلاقة, وفيها يبقى المحب وحده غير محتاج الى المحبوب لانه حينئذ – أي المحبوب - غير جدير بالمحبة وفي هذا الوضع تظهر اسماء مثل :ياالمستخف بالناس / يالذيب / يالخائن الغدار. وسوف نقف متأنين عند هذه الاسماء ووظائفها الفنية لاحقا.[c1]قوانين المحبة :[/c]تبدو المحبة في الديوان مجموعة من القيم والخلال الحميدة التي ينتجها الوصال او الرغبة في الوصال بين المحبين وهي قيم توازي الثمار والورود والازهار التي ينتجها اتصال الماء بالارض وهو ما يجعل العلاقة بين هذين الطرفين علاقة منتجة, وهذا الانتاج من القيم – في رأينا – هو الذي يجعل القصيدة الغزلية العامية قصيدة مغيرة تنتج قيما لغوية دلالية مؤثرة في الناس وهي قيم: الوفاء / رعاية الوداد / الجبر/ المعروف / الذكر / الجميل / الخلق الحسن / الذوق / الاحساس / الحقائق / الصبر / الصدق / الكرم / التربية / الكرامة / التحمل / الراضة / كتم الاسرار / العطاء .. الى آخرها.ولاشك ان هذه القيم تتطلب سياسة خاصة في العلاقة بين المحب والمحبوب لانتاجها فالمحب يظل ثابتا دائما في التمسك بهذه القيم لايحيد عنها, في حين نرى ان الذي يخل بهذه القيم او يخرج عليها هو المحبوب, لذا تبدو عملية المحافظة على هذه القيم ومحاولة تقريب المحبوب اليها عملية جهادية صعبة, لان عدم الحفاظ عليها هو عينه الانتقال الى ضدها من : النسيان , وعدم الوفاء , وسقوط الكرامة, والتسرع, وافشاء الاسرار.. الى آخرها . يقول :كل شئ الا الكرامة مانفرط والنبي فيهامسألة فيها ملامة ياحبيبي بانخليهالايظنون الغرام بايزري بالحشام عاد احساسي يميز الجميل من القبيحأو قوله :حبك ولاقطعت السهن منك وللمعروف قلبي مانسىولانسى الخلق الحسن والذوق والاحساس لي به تكتسيوود ما شابه دنس ووجه ما يعرف عبس يضئ في الاغلاس من حب يقفل مسمعه من وشوشات الناسويميل الديوان الى جعل انظمة هذا الحب شرعة وقوانين ثابتة يمكن الحفاظ عليها والاحتكام اليها, ويمكن ان يكون لها قاض يحكم بالعدل ويميز العادل من الجائر الظالم يقول:يا ناسي المعروف يا خارق قوانين الهوىاستفت قاضي الحب با يفتيكويمكن ان نلاحظ الاشارات المختلفة في الديوان الى هذه الخصيصة في شذرات شعرية مختلفة مثل قوله الذي يظهر فيه المحبوب خارجا عن قوانين الهوى منتجا قيما سلبية من : العناد, والتكبر, ومجاوزة الحد, وخرق القوانين, يقول:عاندت وتكبرت جم على محب مفتونجاوزت حدك والعلم تحكم بلا قانونأو قوله :على الشروع الأصيلة الوداد اتصلبحب ما فيه حيلة ما ابتنى عالحيلوقوله : قانون للعشقة مشرع ما يغدر المظنون مظنونهوقوله : لو كنت في شرعك وفي لاهل السبب باتلتفيلكان ما بغضوك مرة صاحب والجارأو قوله :بيننا ميثاق مش بيعة دلل حب ما به كيف والا كم دخلحب أسسناه عالشرع الأصيل ما تدوم إلا المروة والجميلويمكن ان ترى في هذا القانون او النظام او الشريعة جانبين اثنين : الاول : جانب عمودي يمثل القيم الايجابية المطلقة التي يجب الالتزام بها التزاما بقيم الحياة ويثبت فيها المحبة, والسعادة, وهي القيم الايجابية السابقة : الحق / الخير / الوفاء .. وهناك جانب افقي متحرك وهو جانب النظام , او طريقة حركة هذه القيم, وهو ما ورد في بعض الابيات مصورا الحب (باللعبة) التي لها نظام وقوانين لايمكن اللعب فيها الا بمعرفة هذا النظام وتلك القوانين مما يذكرنا بالشطرنج الذي يضرب مثالا على عمل اللغة مما يجعل شعر الغزل ليس سوى لعبة لغوية ترجح قيمة العقل والتفكير وتربط بين لاعبين اثنين يتغلب فيها من يملك هذه القيمة او هكذا يراد له فنرى تعبير (كشف الاوراق) ا لذي يشير الى لعبة الورق التي تجري على اصول وقوانين معروفة لايمكن الاخلال بها او الخروج عنها يقول:قال لي : يا منبتي كيف تنشر قصتي تكشف اوراقيالهوى في مهجتي وأنت حبك دنيتي في الحشا باقيونرى هذا المعنى في قصيدته الجميلة (هل ترى عادك تحب) :هل ترى عادك تحبأو زمان البعد لما طال نساك المحبهل ترى عادك تحبأو تشوف الحب لعبة منها باتنسحبمن يقول ان الاحبة ينتسون في قوانين الهوى ذا ما يكونوالذي حب صدق ما يقدر يخون او ينقلبوربما اشار الى متاهة الحب او طريقه الملتوي الذي هو اشبه بلعبة يدخل فيها اللاعب من جهة ويخرج من جهة اخرى وربما ضاع في متاهتها كقوله:قالوا طريق الحب ملاوي ايش لي جابك اليه وهذا المعنى من النظام والمعرفة العقلية بقوانين الحب الذي تبدو اشبه بلعبة هو الذي يقف خلف تمثيل الحب بالبحر احيانا بحيث يحتاج راكبه الى معرفة بقوانين الابحار وجغرافيا الموج وركوب التيار وكيفية العوم والنجاة. تلك القوانين التي اذا لم يعرفها راكبه فانه يتعرض للموت او للتيه والضياع يقول :الحب بلوى كوى نحنا بناره وبحر تهنا وضعنا في قراره اما العارف بقوانينه فيستطيع ان يخوضه ويصل الى اعماقه ويستخرج منه الدر والمرجان يقول :اتعب البحر نفسي بس رجاني وحدسيفي شواطيك ارسي حيثما اللول والماسوربما خانه التعبير هنا فاللول والماس في (الغوابي) و(الاعماق) وليس في الشواطئ. والذي لايعرف قوانين لعبة البحر يعالج التعب والصعوبة يقول :وباللهفة دخلت البحر اسبح فيه بالعجلة سباحة تقطع الانفاس وجدته بحر يتلاطم وفي طلعته والنزلة يضيع الحرز والمقياسوربما يؤخذ على الشاعر انه لم يتقن بعد قوانين لغة بحر الحب او ربما هذه مرحلة اولى يكتشف فيها بدايته مع تيار لغة الغزل.