بكاء الموسيقى.. مرافىء
كأن بينها وبين الموسيقى خيط خفي يصعد بها إلى معارج الشموس ..ربما هي تلك الأنامل الرقيقة .. أو ربما هي تلك الأذن الموسيقية المرهفة.أو هو ذلك الإحساس المرهف، أم أنها تلك الروح العذبة الهائمة في ملكوت الكون .. أو لعله كل ذلك لكي تتغلب على الآم مرضها وانطفاء نور عينيها؟! ..ما أن امسكت بالآلة الموسيقية "الاورج"/،ولم تكن قد رأتها من قبل، حتى وجدت نفسها تعزف عليها أعذب الألحان أمام دهشة أبيها وأمها وأخوتها والحاضرين.من علم تلك الصبية ان تعزف الحاناً صعبة لعبدالوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش وعمار الشريعي وسواهم، ومقطوعات موسيقية هندية وأمريكية جنوبية دون أن يعلمها أحد العزف، أو أن تدخل معهداً للموسيقى، أو حتى ترى الآلة التي تعزف عليها إلا لحظة ان أمسكتها بين يديها؟!وأحياناً تعزف مقطوعات موسيقية من تأليفها .. فمن أين يأتيها ذلك الإلهام؟!كل الذين سمعوا عزفها ذلك اليوم عقدت ألسنتهم الدهشة لغرابة مارأوه وسمعوه .. ولم يكن عمرها حينها يتجاوز الثامنة.لكن صغر السن وحده لم يكن سبب هذا الاستغراب، أو هذه الدهشة .. بل لان أحداً لم يكن يتوقع من تلك الطفلة التي في عداد المرضى بمرض نادر، والتي ولدت عمياء أن تفاجئهم هكذا بعزفها المدهش. فلم يكن أحد يعرها اهتماماً خاصاً إلا من باب العطف نظراً لوضعها الصحي. فاذا بالطفلة تعلن عن نفسها وتصنع من ذاتها شيئاً لم يكونوا يتوقعونه.في المدرسة ايضاً أعلنت عن تفوق مدهش، الأولى دائماً ليس في صفها بل على المدرسة كلها، لكن المضايقات التي تعرضت لها من اقرانها بسبب وضعها الصحي الخاص حال دون إكمال تعليمها، فجلست حزينة في بيتها في انتظار لحظة أمل تأتي لتحررها من مرضها، وتعيد النور إلى عينيها.وحتى قبل أن تذهب إلى المدرسة، اعلنت الطفلة الصغيرة عن ذكاء مبكر بالرغم من وضعها الصحي. كان والدها يضعها على حجرة اثناء تدريسه لاخوتها اللغة الانجليزية، أو مراجعة واجباتهم المنزلية معهم .. فذا بها تظهر استيعابها لدروس تسبق عمرها أكثر مما يستوعبه اخوتها الذين يذهبون إلى المدرسة.وكان هذا بقدر ما يفرح أباها وأمها، لكنه ايضاً كان يوقعهما في الحزن امام عجزها ازاء حالتها المرضية التي تزداد تفاقماً مع مرور الاعوام.تعاني صابرين أحمد طاهر مقبل وهذا هو اسمها من مرض نادر قال الاطباء الذين اشرفوا على علاجها انه لايصيب إلا واحداً من كل 300 ألف انسان. وقد بذل والدها كل مافي وسعه لعلاجها على حسابه فذهب بها إلى الهند عدة مرات، وراسل اطباء عالميين في لندن بحثاً عن علاج لحالتها، حيث تعاني من تدهور وانطفاء تدريجي في نور عينيها الذي استعادت بعضه حلال العلاج الطويل. لكن الظروف المادية الصعبة للأب والأسرة جعلتهم يتوقفون، أو عاجزين عن مواصلة علاجها في الخارج منذ عام 1994م مما ضاعف من مرضها الذي يحتاج إلى علاج مستمر وامكانيات مادية لايقدرون عليها.ولعل هذه الحالة، بكل مالها من تأثيرات هو ما جعلها تبحث عن تعويض .. فعوضها الله باذن مرهفة تصغي لخلجات الأنفس، وهمسات القلب، وانطلاق الروح، وبذاكرة حديدية تحفظ ولاتنسى، واصابع حساسة، وحس مرهف لاتجد شيئاً يترجمه سوى الموسيقى، بكل ما فيها من سمو وعلو لاتجد معه سلام النفس إلا بالعزف والغناء بصوتها العذب .. حينها تدخل عالماً آخر، وتندمج في هذه اللحظة بكل مكنون روحها، ولاتقبل ان يخرجها احد من عالمها الأثير، بل وتصيبها حالة من الغضب ان حاول أحد أن يثير الضجيج من حولها، او يدفعها للتوقف على العزف.لم تعد صابرين طفلة، لقد صارت الآن صبية تقترب من العشرين من عمرها. مازالت تتمتع بحدة الذكاء، مازالت تحب الموسيقى، وتهوى العزف الذي تجد فيه سلاماً لروحها، ومسكناً لحزنها والآم مرضها .. لكن المرض لايرحم. وفي كل يوم يأخذ من نور عينيها .. ويسبب لها الآماً اخرى مضاعفة، لكنها مازالت تتمسك بالأمل، وتثق بالله وترجو رحمته، وتستعين بالصبر وبالصلاة وقراءة القرآن.صابرين، في حاجة إلى علاج وإلى انقاذ سريع.فهل تقدم الدولة على تبني حالتها وترسلها للعلاج في الخارج حيث توجد الامكانيات الطبية الافضل لعلاج حالتها ..؟صرخة نوجهها إلى من يهمه الأمر .. وإلى اصحاب القلوب الرحيمة من رجال المال والخير .. وإلى مؤسسة الصالح للاعمال الخيرية للنظر إلى هذه الحالة الانسانية بعين الاعتبار.بقي أن نقول أن صابرين هي أبنة لرجل كريم وعزيز النفس، وهو واحد من اوائل المناضلين اليمنيين، وله دور مشهود في الحركة الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي وفي ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر .. واحد من الذين عملوا بصمت وبدون ضجيج، وأدوا دورهم الوطني دون انتظار المكافأة من أحد، واكثرمن مرة كان قريباً من الموت والوقوف امام كتائب الاعدام .. وأعرف انه يتمزق الماً وحزناً على فلذة كبده، ومهجة قلبه التي تذبل امام عينيه بينما يقيده العجز وقلة الحيلة.وأعرف انه سيغضب مني عندما يقرأ هذه الكلمات .. لكن ماذا أملك سوى الكلمات لكي أبدي تعاطفي معه ومع صابرين .. وأن اتمنى لها باسمكم جميعاً الشفاء من الله العزيز الرحيم.