الراهن - الآفاق
سلطان العزعزي:يزخر المشهد النقدي الادبي في اليمن بتعدد وتنوع الاشتغالات النقدية وتتخذ هذه الممارسات عناوين وتسميات مختلفة قراءة مقاربة اضاءة مكاشفة دراسة ... الخ من التفريعات والعناوين الكثيرة التي تتصدر هذه المقاربات .. الا انه وخلال العشر السنوات الاخيرة شهدت المقاربات الشمولية للنص تراجعا ملحوظاً لصالح المقاربات التي تدرس جانباً من جوانب النص الادبي كما تعددت سبل مقاربة النص بغض النظر عن طبيعة التعامل القرائي للنص والطرق الاجرائية والمناهج المتبعة في هذه التناولات وسواء اتخذت في سبيل ذلك مسلكاً منهجياً صارماً أو اتخذت منحاً قرائياً او تأويلياً او وصفاً انطباعياً فانها في محصلتها الاخيرة تشكل توسطاً قرائياً . وبقدر ما يشي هذا التنوع بالحيوية والعافية في هذا الحقل الادبي الا انه يشير بالقدر نفسه الى بعض المظاهر الاشكالية التي تلازمه وتظهر احياناً في هكذا ممارسة نقدية واشتغال قرائي ان الاشكاليات المحايثة للنقد الادبي رغم تشعبها ليست منعزلة عن المناخ الثقافي العام السائد الذي يحيط بالمشتغل بهذا الحقل وبقدر ما تتعلق بهذا المناخ فانها ذات علاقة بالمشتغلين بهذا المجال والمرجعية والمنطلقات الايديولوجية التي يعتمدونها ويتعلق بعضها الاخر بمستوى الابداع الادبي نفسه . ان الاصدارات والمطبوعات التي تكرسها المؤسسات الثقافية دون ادنى عناية ممكنة بمحتوى هذه المطبوعات وتحقيقها الحد الادنى من المعايير التي تنسبها الى حقل الابداع الادبي او جنس من اجناسه المختلفة وعدم توقف الامر عند الاصدار بل يتعداه الى الاحتفاء الاعلامي والدعائي بهذه الاصدارات واصحابها وتسويقهم عبر اقلام وندوات وقل مهرجانات ان شئت وتستغل بعض المؤسسات هذا الفعل للترويج لنفسها علاوة على حضور الاستهلالات والمقدمات التي تمهر الصفحات الاولى والاغلفة الخارجية والتي تستخدم اسماء واقلام لها من الجاذبية والوجاهة حظاً وهي حالة اعتدنا عليها والامر اللافت ان بعضها لا يغدو استهلالاً او تصديراً تعريفياً عابراً بل ينحو الى التحول الى تعويذة ملازمة للمؤلف والكتاب وحصانة لا تفارقه وتعصمه من نقد النقاد ومن شر الحساد ويبدو ذلك ملتمعا في بعض تلك التسويقات الكتابية فهذا الكاتب يتمظهر في بعضها شيخاً لقبيلة الشعر وذاك زعيما لا يمارى في عوالم القصة واخر فاتحا لم يسبق له مثيل في جبهة المسرح بالاضافة الىتلك التبشيرات والتنبوءات والالقاب والمسميات التي يتم اطلاقها باسراف احياناً على العمل الادبي والمؤلف حيث لا تكتفي هذه الكتابات بوصف الحالة قيد التناول وحسب بل تتعدى ذلك الى وصف الاهمية والشأن الكبير الذي سيمثله ابداعياً للمستقبل الادبي برمته . وتتوازى مع هذا السياق بعض الكتابات النقدية ذات النفس التبشيري من خلال عبارات واوصاف مختلفة نحو قصيدة المستقبل وقصص الغد نص ما بعد الحداثه .. وغيرها من التكهنات التي معها يتحول الناقد اشبه ما يكون بالعراف وقارئى الكف والمنجم الذي خذلته حدوسه عن قراءة واقعه المتشظى في النص فلم يجد امامه ما يحفز عينيه على التحديق فراح يجول بهما بين الافلاك والنجوم . ان ثمة روافد عدة تسهم في الحالة النقدية الراهنة وتغذي جسد الفعل النقدي نفسه . منها ما يتعلق بالمناخ الثقافي الاجتماعي العام والسائد كمستوى وسقف تقبل الوعي الاجتماعي للنقد ووعي المثقف والاديب والتفاعل معه ومستوى العملية الابداعية من ناحية اخرى وعلاقة ذلك بالناقد وثقافته من جهة اخرى ولعل المتابع والمهتم بالشان النقدي في اليمن سيلاحظ ان ثمة ضموراً وغياباً قائماً لا يستعصى على المتابعة وهذا الغياب النقدي هو غياب في النوعية وليس في الكم ان صح التعبير . يذهب الناقد / محمد اللوزي وهو بصدد التعريف ببعض الاشكالات التي يعايشها الناقد الادبي المتوسم بالجدية الى القول : النقد يساوي العداء في مسرح الواقع وهي صورة مصغرة لديمقراطية الثقافة القائمة على الشعار لا على الممارسة .. ان مناخ كهذا اقدر على تفهم تراجع وانطواء عدد من الكتاب جيل السبعينات والثمانينات عن استمرارية الاشتغال النقدي وبعض نماذج هذا التواري الناقد / عبدالودود سيف عبدالرحمن فخري ، عبدالباري طاهر ، احمد ناجي احمد ، فيصل صوفي ، عبدالله سلام ناجي ، حسن اوسان ، محمد اللوزي ، عبدالله علوان ... واخرون . ان هذا الانكفاء لعدد من الاقلام التي اسهمت مبكراً في صياغة ملامح المشهد النقدي الى جانب عدد اخر . كالدكتور / عبدالعزيز المقالح قد يجد تفسيراته لهذا الغياب فتبريرات اخرى لكن ما من شك بان المناخ الطارد للنقد يقف في المنتصف من هكذا اسباب في تصوري على الاقل . اما الاشكالية التي تتعلق بميدان النقد والمشتغلين عليه فتتمظهر في ذلك التمركز والتخندق المتين للناقد حول المرجعية المنهجية احياناً والايدلوجية احايين اخرى ويبدو اشد حضوراً في النزوع للاعلاء من شان الطرح والقراءة النقدية واعتبارها القراءة الوحيدة الممكنة للعمل الادبي والحسم احياناً بان ما يطرحونه من النقد هو الحقيقة العلمية التي تمت المصادقة عليها ولم تعد من تقبل النقاش وتسلب على ما دونها من القراءات حق المقاربة وكذا التهافت والاندفاع حول النظرية والمفاهيم والمصطلحات وما تتركه ذلك من التقليل من شان الممارسة النقدية التي لا تتم مرة واحدة والى الابد فالنقد كما يذهب الناقد (G.How ) من الامور التي لايمكن انجازها مرة واحدة ان اهم المرافق التي يقع فيها هذا الاتجاه هو محاولة فرض طريقة واحدة للتعامل مع النص الذي ينجم عنه نوعاً من العنف الرمزي فالخطاب الذي يطرح نفسه باعتباره صوت الحقيقة هو خطاب سلطة بحسب ميشيل فوكو . اذ انه لا يلبث ان يكون معياراً للتقييم بل يتحول الى وسيلة للمراقبة والتوجيه وحين يتلبس الخطاب ارادة الحقيقة فانه يتحول الى مشروع يؤسس لممارسة خطاب النبذ . ان الاشتغالات والممارسات النقدية التي يمور بها المشهد النقدي في اليمن والذي يتوزع الى اتجاهات ومنابع وتيارات فنية وفكرية شتى سواء وجدت تعالقاتها المرجعية بالآرث النقدي العربي الحديث والقديم والمعاصر او بالتيارات الادبية والنقدية الحديثة وما بعد الحداثية في الغرب وهي بقدر ما تشكل لوحة بانورامية متنوعة ومتعددة ومتغايرة الا ثمة مناطق تتقاطع عليها من حيث طرق مقاربتها للنص او من حيث رؤيتها ويرجع تقاطعها في تصوري الى محددات رئيسية اظهرها:المحددات المعرفية والريوبة كطبيعة فهم الناقد لوظيفة الادب والنقد . المنهج النقدي والادوات الاجرائية المتبعة . السياق الثقافي والاجتماعي الذي يشكل جزء من المرجعية النهائية للناقد . ويمكن تصنيف التجليات التي تفرزها هذه النقدية المتأخرة اعتماداً على طرق المقاربة والمنهج والرؤية الى نماذج رئيسة . النموذج الاول : ويتجلى في تلك الدراسات والتناولات النقدية التي تختزل الادب في البعد الجمالي الصرف وتركز جل اهتمامها في الكشف عن الفتوحات والبنى الفنية والدلالية للغة . وهو اتجاه يحبس النص داخل سجن اللغة بمعزل عن بنية السياق الاجتماعي والثقافي الذي يتوحد النص في سياقه ويتعايش داخل نسيجه وهذا الاتجاه يعزل دراسة الموقف من اللغة عن الموقف من المجتمع والسياق الثقافي والكاتب قد يهزم وتظهر هذه الهزيمة على شكل وعي ادبي كما يلاحظ د . مصطفى ناصف . وينسى هذا النموذج اننا نحاور النصوص للتعرف على قدرتها للتحدث الينا عبر اللغة والوعي معاً ومن المزالق الذي يقع فيها هذا النموذج انه يتقبل القيم التي يمررها النص ويسوقها دون مساءلة او حوار قرائي ومع تأكيدنا على اهمية الانكباب على اللغة التي من خلالها استطاع الناقد الوقوف على دلالة النص باعتبار ان الانزياح اللغوي هو القيمة المضمرة التي تحقق ادبية النص مع بعض الاستثناءات في هذا النموذج التي تحاور النص في سياق تعددية منهجية تارة بالتحليل واخرى بالتأويل ويحضر في هذا السياق نموذج د/ عبدالله البار في كتابه في معنى النص وتأويل شعريته وغيرها من الدراسات ذات المنحى الحيوي . النموذج الثاني : ويتجسد في تلك القراءات والمقاربات الشارحة والواصفة حيث اقتصر تعاملها مع النص على تحليل مستواه الفكري والايدلوجي والانكباب على المضمون دون ادنى اكتراث بالمستوى الفني واللغوي ومحاولة استقراء بنية النص للكشف عن بنية الواقع بمعزل عن القيمة الجمالية والفنية للنص واصدار الحكم والتقييم تبعاً لذلك . النموذج الثالث : يتمظهر عبر النزوع التنظيري واللهت خلف المصطلحات والمفاهيم والمقترحات القرائية والاجرائية والتي يتم تسويقها كقناعات / حاسمة والترويج للنص وصاحبه من خارج النص دون بذل ادنى جهد للمقاربة والحفر في طبقاته . وكان هذا النموذج يرى في التنظيرالبرائي عالية القصوى دون ان يجعل هذه المفاهيم انبثاقاً حياًَ لصحة تنظيراته من واقع القراءة والمقاربة . وهو ان فعل يقع في اشكالية التنظير البراني او غز النص من الخارج كما يرى الناقد د/ عبدالله البار . واحياناً يصاب بالعجز ازاء تقديم شواهد حية وقادرة على تقديم نموذج يقترب من صحة الطرح والتنظير ويحضر في هذا الصدد بعض المقاربات لقصيدة النثر . ان هذه النماذج وان كانت جزء من الصورة للواقع النقدي فانها لا ينبغي ان تغلق باب التقدير في وجوهنا ازاء حيوية واهمية بعض الدراسات والمقاربات النقدية الجادة التي تجد محدداتها المنهجية ومقاربتها القرائية من خلال النص الذي يقترح اسلوب تعاطي الناقد وادواته الاجرائية . ان النقد حسب رولان بارت ليس باي معنى جسداً من الاحكام او جدولا للنتائج بل هو جوهر نشاط وسلسلة من الافعال المنشبكة . ولعل اظهر مناطق الانحراف الذي يعتري بعض النماذج النقدية هي في العجز عن اقامة حوار مع النص بعيداً عن الحسم والتصنيف او ليس النقد والقراءة هي امكانية للحوار والاقامة على استكناة ومقاربة النص وقراءاته والتي لا تنتهي بقراءة وتلقي واحد بقدر ما تنفتح على هكذا قراءة وتلقي كما انها لا تنغلق على معنى واحد ولا تستقر على التصنيف وهو ما يؤكد قدرة النص الابداعي تحديداً على الاشعاع والتأثير والادهاش والقدرة على تخظي الازمنة وخلق الاثر الفني وخارج المكان وثقافته .