
الثورة هي حالة وعي لا يقبل الضيم والبؤس، فينتفض للتغيير والتحول لما هو افضل ، وهي قيمة بكونها معيارا تشكل البشر كيفما شاؤوا، وتنحت فيهم ثقافة الحرية والتحرر، فخطورتها في نحت وتشكيل الافكار المترتبة على مفاهيم مغلوطة تقسم المجتمع لطوائف منهجية حزبية واحيانا مناطقية ، لتجرنا بعيدا عن معركة الثورة لمعارك صغيرة تتغذى من خارج حدود الوطن.
بتلك الافكار قد تخترق الثورات، وما يصونها من الاختراق هو الوعي بمفاهيم الثورة، حيث لا خضوع ولا انحياز للمصالح الآنية، للماضي وتراكماته وثاراته، للنعرات والطوائف والمناطق وعبادة الاصنام البشرية، للشعارات الخاوية وللعواطف والنزاعات التافهة، هذا هو الاحتلال حيث السيطرة على الذات البشرية، لتشكل بمجموعها الشعوب الخاضعة والمحتلة، شعوب تحلم و تنتظر من يرسم لها مستقبلها، شعوب عاطفية لا ترى غير العنوان ولا تهتم بالتفاصيل، ترى القشور ولا تهتم باللب، فيمكن السيطرة عليها وتحريكها كدمى تدس لها السم داخل العسل.
الشعبوية بدون رأس واعٍ هي كتلة من الحماس العاطفي، يديرها المزاج، تارة مزاجها يعلو وطنية، ثم ينخفض ليلعن ثوراتها التحررية، ومنعطفات تحولها التاريخية، مزاج يسهل ادارتها كدمى.
وللأسف نحن شعب عاطفي، والعاطفة هي لعنتنا، قالوا ثورة قلنا ثوار، سبتمبر و اكتوبر حررتنا من الكهنوت والاستعمار فلعناها، واستمررنا نمتهن لعن كل قيمة تدفعنا لان نثور ضد الانظمة الفاسدة وظلمها وقهرها، فلعنا الوحدة كقيمة وهي كانت اجمل شيء في تاريخنا، ولعنا 11 فبراير و16 فبراير وهي كانت حالة انقاذ لمسار الثورات المتعاقبة، ولعنا مخرجات الحوار والتي كانت وما زالت لحظة انقاذ للتاريخ المعاصر، ولم نلعن المنظومات السياسية التي افرغتها من قيمتها الحقيقية، تلك المنظومة التي ما زالت تحكمنا وتبدد احلامنا، وتقتل فينا الروح الثورية ، لتحولنا لمجموعة رعاع تدار بالعواطف والشعارات خاوية المعنى، مجموعة تهتف للصنم وبطانته، كل هذا بسبب وتيرة الحماس بعاطفة ورؤية الامور بسطحية، فغاب عنا العقل والصواب في رؤية القيمة ومشروعيتها وعدالتها، التي تفضي الى اهمية القيمة في تغيير حياتنا للأفضل ، حتى وان سقط او انحرف رافع رايتها، فالقيمة هي الاصل والجامع والضابط الاخلاقي، وليس النموذج الذي قد يصيب وقد يخطئ، تبقى القيمة محل احترام تسقط فكرة الانحياز للمشاريع الخاصة والقناعات الخاصة، الولاء للحزب أو الجماعة او الطائفة او المنطقة، احترام القيمة يدفع للنضال من اجل حمايتها وتحقيقها كواقع، لتنفيذ مشروعها الكبير، و عدم السماح للمشاريع الصغيرة بالبروز او ان تسود، لتعود بنا للخلف او تبقينا محلك سر، وهي المشاريع التي لا تخدم التقدم للأمام والتطور والنهضة والرقي، ومواكبة العصر.
ما زلنا في المخاض الثوري، وما زال البعض لم يتحرر بعد من الماضي ليكون ابن الحاضر الخالي من كل بؤس زرع فينا، وكل ظلم وقهر اثر في نفسيتنا، من كل حقد وثار وانتقام ما زال جاثما على صدورنا، وكل ارهاب فكري وثقافي وسياسي ونفسي ما زال جزءا من ثقافة الكثير يمارسونه ضد الآخر، وما زلنا نسفك دماء بعضنا، وما زلنا نبني عوائق في طريق التوافق على وطن، والعيش بتسامح وتصالح، لنصنع سلاماً.
مخطئ من يعتقد ان واقعنا اليوم هو نتاج لثوراتنا، بل هو نتاج لغبائنا في فهم مفاهيم تلك الثورات التحررية والاستقلال، ولهذا نحتاج لثورة وعي لتصحيح تلك المفاهيم اولاً وتحرر الذات ثم تحرر الوطن لكي يستوعبنا جميعا.