مخطئ من يعتقد ان الحياة يجب ان تكون على هواه، فقد خلقنا مختلفين، طوائف وعقائد واعراقا وثقافات، وكل منا يحمل فكرا وتوجها سياسيا ورؤية، هذا الاختلاف لا يمكن ان يثري خيراً ما لم نعترف به اولا، ونعترف بحق الآخر المختلف، بل ما لم نصل لوعي ان ندافع عن ذلك الحق قبل ان ندافع عن حقوقنا، الدفاع عن حق الآخر هو قمة الوعي والرقي، اما الدفاع عن حقوقنا فقط دون الآخر فهو مستوى متدنٍّ جدا في الوعي.
لو آمنا ان للآخر حقاً لا يختلف عن حقوقنا، لما غرقنا في مستنقع اضطهاد وظلم الآخر، والغاء الآخر واقصائه وتهميشه بل تصفيته، والحكم الشمولي، حكم الفرد وحكم القبيلة وحكم الفكر الاوحد، حيث الوطن مستلب لتلك الفئة الضالة، التي تقوم بكل وسائلها لإخضاع الآخر بالقوة ليكون تحت الطاعة والاستسلام، في سلطة غاشمة ووطن مستلب، وشعب مهان، وحالة من الظلم والقهر حيث لا حياة الا لمن يوالي تلك السلطة.
لم يكن ماضينا غير تنازع للانتماءات، التي لا يرى اصحابها الامور إلا من زاوية ضيقة، هي بالنسبة لهم عين الصواب، وهم مخطئون، رؤية متعصبة للذات والأنا، تفتقد لإيماننا بالمشترك بيننا، والفرق واضح بين ان تكون منفتحا على كل الانتماءات والافكار والرؤى، وتكيل بمكيال الحق للجميع، وحق الآخر هو مسؤوليتك قبل حقوقك، تنازع جعل البعض محصورا داخل دائرة ضيقة غير مهتم بالحق العام.
كل ما حدث من انتهاكات ومآسٍ وظلم وقهر وكوارث الصراعات والحروب، هي نتيجة طبيعية لهذا التنازع، الذي لا يعترف بالمشترك، وما يجمع الناس، فذهبنا لما يفرق ويمزق.
انها تراكمات سنوات عجاف من العنف والقهر والانتهاكات، فأصبنا بأضرار جسيمة ما زالت ماثلة في عقولنا تحدد طريقة رؤيتنا ومسار اهدافنا، تنبش كل ما فينا من حقد وضغينة، والدعوة للانتقام وتصفية الحساب، هي ثقافة اصبحت لها الأثر الواضح في تعاملنا مع الآخر، بل تعاملنا مع بعضنا، حيث لا إيمان بالاختلاف والتنوع وحق الآخر المختلف، والمشتركات التي يجب ان تبني علاقتنا ببعضنا، ونبني بها اعمدة الوطن الذي يجمعنا.
من منطلق ان الحياة مدرسة نحن منها نتعلم، تقسو علينا، لكنها يجب ان لا تجعل منا قساة، نواجه فيها التحديات والمعوقات، ويجب ان لا تقتلنا بل تقوي من ايماننا بالمشتركات، الماضي هو جملة من الدروس والعبر يفلح من يستوعبها، ويستفيد من الدرس، ويبقى غارقا في وحل المآسي من لم يستوعب كل ذلك.
يفلح من يخوض معركة الحياة بشرف ووعي، ليصل لمستوى من النضوج الفكري والثقافي للقبول بالآخر والتنوع ، وحقوق الجميع بالتساوي.
لا يمكن ان ينضج من لم يخض معركة الحياة في كل مراحلها بشرف ونزاهة وعقل ، من يهرب من الاعتراف بالواقع والحقائق، ويغمض عينيه على ما حوله، ويعش في دائرته الضيقة، يصارع هواجسه واحقاده وثأراته، هذا النوع هو اسير تلك المرحلة، لا يستطيع الخروج منها بعجزه عن تدمير قيودها، ويضر حاضره ومستقبله، بل بحاضر المجتمع وتوجهات المستقبل.
هؤلاء هم من جعلوا حاضرنا نسخة سيئة من ماضينا، وان كان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فنحن ما زلنا نلدغ عدة مرات من نفس الجحر، وما زلنا في واقع من الضياع، كل جهودنا في التغيير والتحول تذهب هباء منثورا، فيأتي مثل هؤلاء ليجرونا للصراع والانحياز لأفكارهم وضيق أفقهم.
ينضج الانسان بتطور العقل ليصنع حلولاً، يتسامح مع الذات والماضي، وينتقل لحاضر يهيئ لمستقبل ينصفه وينصف كل مظلوم ومقهور، يحقق العدالة والحريات والمواطنة، يرسخ روح القانون، تلك البيئة المثلى التي لن تسمح بتكرار ماضينا وتسلط فئة على اخرى، لا يسمح للعنف ان يكفر ويخوّن ويصنّف، ويصرف صكوك الوطنية لمن يريد، ويزوّر التاريخ ويعيد ترتيب اوراقه ليبقى حاكما متسلطا مدى الدهر، في وطن لا تسمع فيه غير أنين المطحونين وصراخ الجياع، وبكاء الماضي، حيث لا امل في مستقبل افضل مما نحن فيه.