عندما أفتح عيني على مخزون ذاكرتي، وأعود بها نحو ستينيات القرن العشرين الماضي، أرى فيها بين ما أرى تلك الطفلة الصغيرة السمراء، الشعثاء الشعر، المتقدة عيناها بالذكاء، والتي رأيتها في دكان أخي محفوظ في حافة الهاشمي بالشيخ عثمان تشتري منه غرضاً ما، لم يكن بيتها بعيداً عن الدكان ولا عن مسجد الهاشمي ومقام هاشم بحر الذي سميت الحارة باسمه.
مرت عدة سنوات على تلك المرة الأولى التي رأيت فيها تلك الطفلة، حين كنت في زيارة أخي في دكانه، ولم أكن أكبرها كثيراً في العمر. لكن لا ينسى المرء المرة الأولى أبداً، أو أن هذه البنت الصغيرة من النوع الذي لا يمكن نسيانه، لأني سوف أراها مرة أخرى وكثيراً، وقد كبرت في العمر، وصارت فتاةً ملء السمع والبصر. وغادرت أنا بدوري سنوات الطفولة، وصرت صحافياً يتتبع أخبارها دون أن يعلم أنها نفس تلك الطفلة.. فتاة دكان حافة الهاشمي!!
2
كانت عدن، قد انتزعت حريتها بعد سنوات من النضال الوطني بكافة أشكاله الذي خاضه شعب الجنوب وعمده أخيراً بالدم الذي دفعه رفاق السلاح والثورة ونال الجنوب استقلاله الوطني، وتلك الطفلة الصغيرة التي رأيت في عينيها فرحاً غريباً وبريقاً خاصاً، غدت شابة تظهر في الصور مع أبطال الثورة ورجال الاستقلال في أعلى مستوياتهم، الرئيس ورئيس الحكومة، وتقوم بكثير من الأنشطة التي تتعلق بالنساء والطفولة وغيرهما، وكانت تكرس نفسها لتلك المهمة النبيلة، وتقوم بتلك الأعمال التي يحتاج إليها المجتمع بحب وإخلاص وإيمان.. البلاد ذاتها كانت تحتاج فِعلاً إلى هذا النوع من النساء المخلصات والرجال المخلصين الذين يؤمنون بمبادئ الثورة حتى تلحق بركب البُلدان المُتقدمة. وكانت لديها القدرة على نسج علاقات مع الآخرين بسرعة وتتمتع بجرأة لا تخفى، وكنت أنظر بنوع من الانبهار إلى تلك الفتاة الشابة التي اسمها نجلاء شمسان دون أن أعرف انها نفس البنت الصغيرة في دكان أخي محفوظ في حافة الهاشمي !
3
حتى كان ذات يوم، دعتني فيه لتناول الغداء في منزلهم الواقع في حافة الهاشمي، واملتني العنوان كاملاً. ما أن وصلت الشارع حتى تداعت ذكرياتي دفعة واحدة، دكان أخي محفوظ، والبنت الصغيرة التي كانت تتردد عليه لشراء بعض المحتاجات، لكن لم أكن متيقناً بعد أنها هي هي، حتى صعدت السلالم، وقرعت الباب، وفتحته لي بنفسها، تسبقها ابتسامة ترحيب واسعة، وصوت تميزه تلك البحة، والحميمية كأنها تعرفك منذ زمن بعيد.
لم يكن من معازيم غيري، وتناولنا وجبة الغداء على الأرض جميعاً كما هي العادة العدنية، أنا ونجلاء ووالدتها، وأختها الصغرى إيمان كانت الوجبة بسيطة، زربيان، وعُشار، وربما سلطة أيضاً، وفجل، وبعد الوجبة احتسينا شاياً عدنياً باللبن والهيل.
وفي وقت تناول الشاي كما هي العادة جرى الحديث، وخلال ذلك عرفتني نجلاء إلى أمها التي كانت وقت مجيئي في المطبخ تعد وجبة الغداء، وقالت لها إنني صحفي أعمل في صحيفة 14 اكتوبر اليومية، وذكرت لها اسمي كاملاً، وما أن سمعت الأم كنيتي حتى قالت :
- ايش يقرب لك محفوظ الشحاري؟ كان يعمل في الدكان القريب من بيتنا ؟!
ربما شعرت نجلاء ببعض الحرج من سؤال أمها غير المتوقع، وقد رأيت النظرة التي رمقت بها أمها، لكني أجبت بسرعة:
- محفوظ بحاح انه أخي..
فقالت السيدة وقد شعرت بالراحة وبأن الأمر عادي جداً ولم تخطئ بشيء: - كنا نشتري منه الراشن.. كان رجال طيب جداً.
وجارتها نجلاء :
- كلما أروح الدكان، أشوفه يقرأ كتاب أو مجلة..
وسألت الأم:
- أيش أخبار محفوظ أخوك ؟
اخبرتها أنه هاجر إلى الكويت قبل الاستقلال!.
تلك اللحظة فقط عرفت أن مُضيفتي نجلاء شمسان هي نفس البنت الصغيرة التي كنت أراها في دكان أخي محفوظ في حافة الهاشمي بالشيخ عثمان.
4
بعد كل هذه السنين، وقد بلغت من الكبر عتياً، أستطيع أن أقول؛ هل كان من الصدفة أن اذهب في ذلك اليوم بالذات من ستينيات القرن الماضي، لزيارة أخي محفوظ في دكانه في حافة الهاشمي، وتأتي تلك البنت الصغيرة لتشتري غرضاً ما، وأراها هناك دون أن أعرف اسمها، ومن تكون، ويذهب كل منا في سبيله، ثم بعد قرابة 10 سنوات فقط تجمعنا الأقدار مرة أخرى بفارق زمنين، وحياتين. كبرنا بسرعة بأكثر من المتوقع، وتحملنا حملاً ومسؤوليات قبل الأوان، لم تعطنا الحياة كثيراً من الوقت لكي نلعب مثل الأطفال، تشبعنا بكثير من الأحلام ككل أبناء جيلنا وشعبنا الطيب عن الحرية والاستقلال والازدهار، كبرنا “وسط أصوات الرصاص وعواصف الخوف وصراخ المقتولين على منحدرات البلاد”، واغتيلت أحلامنا على مذبح السلطة، وفي أحيان كثيرة لم نستطع أن نلملم أشلاء قتلانا أو حتى الإشارة إلى قاتليهم، فقد كانوا جميعاً رفاق سلاح، صنعوا الثورة معاً، وشاركوا أيضاً في خرابها الكبير!