
وللإجابة على السؤال يجب العلم ان الفكر هو الذي يرتقي بالأمة، وان الغوص في الاحداث دون فكر، يغرق الامة بتراكمات سلبية تلك الاحداث فيتوهون عن كل ما هو ايجابي، ولن تجد ما ينفع في سلبيات الاحداث سوى مبررات استمرار الصراع، وقد يصاب البعض بداء الثأر والانتقام، ويبقى منشغلا بكيفية تصفية الآخر، والاستئثار بالسلطة والثروة لقهر الآخر.
ولهذا لن نرتقي بالواقع ونحن مشغولون بأحداث الماضي وسلبياته، بالألم والجراح والدماء بالقهر والظلم، لأنها ترسخ فينا ثقافة الصراع وتعزز لدينا روح الانتقام.
لكي نرتقي بواقعنا يجب ان ننظر للماضي كدرس وعبرة، ونستخلص منه الافكار الايجابية، وكيفية تصحيح الاخطاء والتخلص من السلبيات.
لم يعد ممكناً التعامل مع الواقع اليوم خارج الوعي، وما يجري من تطور سياسي واقتصادي، والاتكاء على الوسائل التقليدية من ارث الماضي، فالتغيير يتطلب مواكبة تطورات العصر، فحاضرنا يجب ان لا يكون نسخة من ماضينا، لن يتغير واقعنا ما لم تتغير ذواتنا( تفكيرنا وتطلعاتنا)، لنكن جزءا من الحاضر والثورات العلمية وثورات التكنولوجيا والاعلام والاتصالات، والجهد النظري المجدد للعديد من المقاربات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تقوم على التقاط حركة الواقع كما هي والبحث عن الحلول الجذرية لتلبية حقوق المواطنة وتوفير بيئة لحياة كريمة.
من السطحية النظر للفكر حالة من التنظير، فالفكر يشكل مع الفعل جدلية مهمة في رسم استراتيجية الحياة والسياسات العامة الضابطة لمسار التحول والتغيير، وهذا ما يستدعي استلهام الافكار من فعل الماضي ، فلا ننشغل في الاحداث اكثر من انشغالنا في الافكار، تفعيل الافكار في الوعي الجمعي يحيلها الى سلوك تتمثل به حركات الانسان وسكناته.
لعلنا اليوم في امس الحاجة لمراجعة تاريخنا، بدراسات علمية تستخلص منه تجاربنا والافكار التي تشكلت من تلك التجارب لتكون مرجعا في بناء وعي يصحح كثيرا من إصابات العقل، التي شغلت الامة بأحداث الماضي السلبية، ولم ترشدها لاستلهام الافكار من تلك الاحداث، فصار البعض لا يرى في الثورة غير التنازع والصراع والحروب، ولا يرى في الجمهورية غير المنظومة القبلية والعسكرية التي اختطفت السلطة، ولا يرى في الوحدة غير الصراع البيني بين القوى السياسية، ولم يرَ الانفصال غير صراع مع الآخر، وتحولت الحياة بفعل العقل المصاب، إلى صراع مناطقي ومذهبي وايديولوجي، ودمرت الافكار لتتفوق عليها سلبيات الاحداث التي شكلت حركة الحياة ما بعد الاستقلال، وانتجت لنا كل هذا الصراع وكل تلك الحروب والتراكمات وعززت الثأر والانتقام الذي ما زال ماثلا في العقول المصابة التي ما زالت تنتج لنا الأسوأ والاكثر فسادا وقهرا.
لا يمكن للأفكار ان تكون اكثر تأثيرا في الوعي النقدي، لكي ترتقي بالأمة، ما لم تتمكن من احداث تغييرات حقيقية في النفسية الاجتماعية وسلوك الناس، ما لم نلتمس اثرها على الواقع، بين الشباب جيل المستقبل، الذي ما زال ضحية اسلافه، يغذونه بثاراتهم، ويزرعون فيه مصابهم العقلي والنفسي، ليحملوه فوق طاقته من معوقات النهضة والتطور، ويعطلون مهارته وابداعاته في التجديد.
ويبقى السؤال الذي يجب الخوض فيه اليوم كيف نجعل الافكار في دائرة التفعيل في واقعنا اليوم؟ لنستلهم منها الحلول الجذرية لمآسينا، وندفع بالعقل الجمعي ليعمل بإيجابية، ويكبح جماح النفس الأمارة بالسوء التي تعبث بحياتنا اليوم، وتنتج كل السوء والبؤس.