بلبلة طالت مختلف الأطراف سواء التي وردت أسماؤها في الكتاب الأسود أو حتى التي لم ترد حيث اختارت مواقف تضامنية ومبدئية.
ويمكن القول إن صدور هذا الكتاب، غطى إعلاميا على اهتمامات وسائل الإعلام التونسية اليومية المعروفة كمتابعتها لمسار الحوار الوطني وتعثراته والأزمة السياسية المندلعة في البلاد منذ تاريخ اغتيال «الشهيد» محمد البراهمي يوم 25 يوليو (تموز) الماضي، حيث أصبحت تداعيات صدور الكتاب الأسود الخبر رقم واحد والحدث الأكثر احتجاجا واستنكارا وإثارة للغضب والاحتقان. فمنذ صدور هذا الكتاب، والمقالات واللاذعة وحتى الناقدة لرئيس الدولة المؤقت، لا تكاد تنقطع عن النشر يوميا، ناهيك عن حوارات ساخنة في الإذاعات الأكثر استماعا وحضور شخصيات مهمة تناولت مسيرة السيد المرزوقي وتفاصيل نضاله ومواقفه بالنقد. وهي برامج لم تترك صغيرة أو كبيرة حول الرئيس المرزوقي إلا وجاءت على ذكرها بدءا بالأكلات المفضلة عنده ثم علاقته بالمال والأصدقاء وصولا إلى معاركه الشخصية مع خصومه السياسيين وعلاقته بالرئيس السابق بن علي بل وحتى مقالاته التي قيل إنه ساند فيها بن علي في انتخابات 1989.
هناك هجوم شرس من جميع المستهدفين ضد المرزوقي للدفاع عن أنفسهم وذلك مرة بمعارضة ما جاء في الكتاب وتفنيده ومرة بنقد الرئيس نفسه في إشارة واضحة وصريحة إلى رسائل بعينها. ولم يترك الصحافيون التونسيون المستهدفون وسيلة اتصال واحدة لرد الهجوم على المرزوقي: صحف وإذاعات وتلفزات وندوات صحافية...
ولم يقتصر الكتاب في التشهير على الإعلاميين فقط الذين اعتبرهم ممثلين للمنظومة الفاسدة للرئيس بن علي بل إنه تعرض بالقدح إلى المحامين وأيضا جمعية الترجي الرياضي وهي جمعية رياضية عريقة، الأمر الذي أثار غيرة جماهيرها العريضة وقرارها مساءلة المرزوقي. كما هدد بعض رجال الأعمال الذين ورد ذكرهم في الكتاب الأسود بالرحيل ومغادرة البلاد.
واللافت للانتباه أن المتضررين معنويا من الكتاب الأسود اعتمدوا تقريبا نفس الاستراتيجية: هجوماً ساخناً وقوياً في مختلف وسائل الاتصال الجماهيرية المتاحة وبالتوازي مع ذلك رفع قضايا بالجملة ضد رئيس الدولة.
ويمكن القول إن عدد القضايا المرفوعة والتي سترفع ضده داخل تونس وخارجها تجاوزت إلى حد الآن وستتجاوز في الأيام القادمة العشرات.
إن السؤال المركزي الذي يفرض نفسه: لماذا حدث كل هذا؟ وهل يليق بمؤسسة الرئاسة أن تكون طرفا في إثارة البلبلة وإشعال فتيل الفتنة داخل النخب بجميع أصنافها الرياضية والاقتصادية والإعلامية؟ هل في صالح أي شخصية سياسية تكوين جبهة ضدها هكذا بشكل مجاني بدون الاستناد إلى أطر ووسائل شرعية ومشروعة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال من المهم توضيح جزئية تبدو مهمة وهي المتعلقة بالانتقادات في الصحف والإذاعات والندوات تجاه رئيس الدولة. فلا يجوز تفسير ذلك بالانفلات الإعلامي أو بالمناخ الحرياتي الجديد في تونس. فهي ليست مجرد انتقادات، أي أننا موضوعيا أمام إهانة للدولة ولمنصب رئيس الدولة قبل شخص الرئيس.
فالظاهر أن ما جاء في هذا الكتاب وما أقدمت عليه الرئاسة من خلال التشهير بالإعلاميين وبأشخاص أحياء وموتى ورجال أعمال وجمعيات رياضية وغيرهم باستغلال أرشيف الرئاسة وتوظيف معلومات ذات صبغة شخصية لا قرينة قانونية تثبت حجتها، قد فتح الباب على مصراعيه لخطاب انفعالي في وسائل الإعلام.. لذلك يمكن الاستنتاج أن مؤسسة الرئاسة اعتدت على رمزية الدولة والقانون، فكانت بذلك مع الأسف كمن تشرع لتجاوز القانون وحقوق الإنسان وهنا يكون آليا قد انضمت لسلوكيات خصوم الأمس وعلى رأسهم بن علي باعتبار أننا أمام ممارسة من ممارسات الأنظمة الشمولية.
من ناحية ثانية، صدم الكتاب الأسود الرأي العام في تونس لأن الرئيس المؤقت صرح بعد دخوله قصر قرطاج على أثر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي حرفيا بأنه لن يمس أرشيف الرئاسة وأن توظيف هذا الأرشيف أمر غير أخلاقي وأنه ممن ناضلوا طيلة حياتهم من أجل «أخلقة السياسة».
لا أحد كان يتوقع أن تكون مواقف الرئيس متناقضة إلى هذا الحد، إضافة إلى أن المنطق يرفض أن يقوم حقوقي بخرق القانون وتجاهل قانون العدالة الانتقالية، وهو ما يفسر لنا الموقف الغاضب من وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية والجمعيات الحقوقية والقضائية. فأن يدوس أعلى هرم في السلطة القانون ويُشهر بالمعلومات الشخصية الصحيحة والخاطئة للمواطنين إنما يبدو مثل رسالة سيئة للغاية.
كما نعتقد أن السبب الآخر وراء شلال الغضب من الكتاب الأسود يعود إلى أن عملية إصداره شكلت في حد ذاتها مسألة فوق الفهم! فكيف يمكن فهم معاداة رئيس دولة ينوي الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة للإعلاميين والمحامين ولمؤسسات إعلامية وطنية وعربية ودولية؟ ثم كيف يذهب عن ذهن جماعة مؤسسة الرئاسة حتى وإن كانوا حديثي العهد بالحكم أن لا شيء أخطر من الجماهير الرياضية التي لا تحتكم في ردود فعلها إلى التعقل؟ وماذا يعني أيضا استهداف السلطة الرابعة ورجال أعمال في وقت يعيش فيه الاقتصاد التونسي ظروفا صعبة؟ وهل يملك الرئيس المؤقت البديل للعاملين في المؤسسات التي هدد أصحابها بالرحيل؟
أحيانا تبدو الأسئلة بليغة وتغني عن البحث عن الأجوبة.