وبالنظر إلى الأضرار السياسية والاقتصادية والأمنية والبيئية التي ألحقها الإرهاب ببلادنا ، وما زالت تداعياتها وآثارها تفرض ظلالا ً ثقيلة على حاضر النظام السياسي الديمقراطي والاقتصاد الوطني والسلام الاجتماعي ، وعلى علاقات اليمن بمحيطه الإقليمي والعالمي ، أصبحت مواجهة هذا الخطر مهمة وطنية تستلزم مواجهة ً شاملة ً من قبل الدولة والمجتمع ، بعيدا ً عن المكايدات الحزبية والحسابات السياسية الضيقة .
صحيح ان ثمة تجاذبات حزبية وسياسية أحاطت بطرق تناول خطر ثقافة العنف على وعي وسلوك كل من يتأثر بهذه الثقافة التي تجسدت في أشكال مختلفة من التعبئة الخاطئة لضحاياها . بيد ان هذه الثقافة المشوهة لاتنحصر فقط في الخطاب السياسي الذي تورط فيه بعض رجال الدين والدعاة المشتغلين في الحقل السياسي والحزبي ، إذ ْ ان هؤلاء يمارسون نشاطا ً سياسيا ً وحزبيا بامتياز ، رغم محاولة التماهي مع مشروعية دينية لا تحظى بإجماع كافة قوى المجتمع المدني ، خصوصا ًوإن الضالعين في توظيف الدين لأغراض سياسية بحتة ، يمارسونه من خلال أطر حزبية في ظل نظام ديمقراطي تعددي، يتيح لكافة قوى المجتمع السياسية وفاعلياته الفكرية والثقافية فرص التمتع بكافة الحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية التي يكفلها الدستور للمواطنين ، وفي مقدمتها حرية الصحافة والحق في تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وإستخدام الآليات الديمقراطية للتعبير عن مختلف الأفكار والبرامج السياسية ، وتداول السلطة او المشاركة فيها سلميا ً من خلال الانتخابات المباشرة والحرة التي تشارك فيها الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات غير الحكومية والمواطنون والمواطنات عموما ً .
ولما كان قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية يمنع قيام أي حزب او تنظيم سياسي على أساس الإدعاء بإحتكار تمثيل الدين أو الأمة أو الوطن ، إنطلاقا ًمن حرص المشـرَّع على سلامة الممارسة الديمقراطية، ومراكمة المزيد من التقاليد والخبرات التي تصون مرجعية الأمة كمصدر للسلطة والسيادة، فإن أي محاولة لاستغلال مؤتمر الحوار الوطني لتبريروتسويق الادعاء بإحتكار تمثيل الدين أو إستخدامه لممارسة وصاية غير مشروعة على الدولة والمجتمع ، تعد تجاوزا ً خطيرا ً للدستور الذي ينظم قواعد الممارسة السياسية ، وإنتهاكاً خطيراً لمبادئ الديمقراطية وقيم الحوار الوطني، الأمر الذي يهدد بافشال مؤتمر الحوار الوطني ، وتقويض الجهود الرامية الى إخراج البلاد من أزمتها السياسية ، وعرقلة الجهود المبذولة من أجل اصلاح النظام السياسي وبناء الدولة المدنية الحديثة ، ويفسح الطريق لتفكيك الدولة وزعزعة السلام االأهلي والأمن والاستقرار .
ما من شك في ان مستقبل الديمقراطية الناشئة في اليمن يتوقف على مدى النجاح في إنضاج المزيد من شروط تطورها اللاحق ، عبر مراكمة خبرات وتقاليد تؤسس لثقافة سياسية ديمقراطية ، وتمحو من ذاكرة المجتمع رواسب الثقافة الشمولية الموروثة عن عهود الإستبداد والتسلط ، بما تنطوي عليه من نزعات إستبدادية تقوم على الإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين والزعم بإحتكار الحقيقة، وعدم قبول الآخر ورفض التعايش معه، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف الى تسويق مشروع استبدادي غير قابل للتحقيق بالوسائل الديمقراطية ، ويبرر بالتالي العدوان عليها من خلال إستخدام العنف بوصفه الوسيلة الناجعة للإقصاء والإنفراد .
لا ريب في أن أطرافا ً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدّى الى إنتشار التطرف لدى بعض المتأثرين بهذا الخطاب، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين القساة الذين تورطوا في إرتكاب جرائم إرهابية . بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف ، وبقايا نزعات الاستبداد والإقصاء والإلغاء والانفراد والأحادية ، ليست حكرا ً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب .
بوسعنا القول إن ثقافة الإستبداد في مجتمعنا والمجتمعات العربية إمتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للإيديولوجيا الشمولية التي اشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع ، والسعي الى إخضاعها للأطر الفكرية والأهداف السياسية للإيديولوجيات المتصارعة، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى الى السيطرة على وعي وسلوك الناس، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم واستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها .
ولمـا كانت الآيديولوجيا ــ سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو اجتماعي ــ تنزع دائما ً الى ممارسة الوصاية على الحقيقة والمعرفة ، إذ ْ تزعم بإحتكار الحقيقة وتسعى الى أدلجة المعرفة ، فإنها تـعطَّـل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل، حين ترى العلة في الواقع لا في الأفكار والتهويمات التي تؤثر على طريقة فهم الواقع والتفاعل معه .. بمعنى فرض سلطة الصنم الإيديولوجي بصرف النظر عن لبوسه ، وما يترتب على ذلك من إفتقاد الموضوعية والعجز عن معرفة الواقع وإكتشاف الحقيقة !!
من نافل القول ان جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية ـــ وبدون استثناء ـــ توّرطت بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة استبدادية وإلغائية أضاعت فرصا ً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة ، وخلقت جراحا ً غائرة وطوابير من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسيا ً وايديولوجيا ً سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة ، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية ، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر ، بما في ذلك فقه((التـتـرس )) الذي يتناقض مع مبادئ وقيم وتعاليم الإسلام ، حيث أباح فقهاء القمع والاستبداد أثناء حرب 1994 المشؤومة قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط ما تسمى ( الطائفة المتتنعة )، ويوفرون لهذه الطائفــــــة (( المرتدة)) فرصة التترس ، حتى وان كان هؤلاء ( المتترس ) بهم مسلمين بحسب معتقدات تنظيم ( القاعدة ) والجماعات السلفية الجهادية التي تستند الى فتاوى احمد بن تيمية وابن القيم الجوزية، ومخرجات كتب الفقه الموروثة عن عصر السلاطين المماليك في عصر الانحطاط ، بالاضافة الى الأفكار التكفيرية الوهابية التي ظهرت في الجزيرة العربية قبل أكثر من قرنين!!؟؟.
والمثير للدهشة ان الذين روجوا لهذه الأفكار المتطرفة زعموا بأن (( العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر شوكة الكفر عن دار الإسلام)) بدعوى أن المتترس بهم من المدنيين سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم !
والحال ان الاعلان عن قبول الديمقراطية لم يعد كافيا لدمج أي طرف سياسي في العملية الديمقراطية، ما لم يتم التخلص من الجمود العقائدي والتعصب للماضي القريب او البعيد ، والتوقف عن الهروب من الاعتراف بالأخطاء ومراجعة التجارب والأفكار والمواقف تبعا ً للمتغيرات التي تحدث في العالم الواقعي ، وتستوجب بالضرورة تجديد طرائق التفكير والعمل، والبحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها متغيرات الحياة ، وإبداع أفكار جديدة وتصورات وحلول مبتكرة للقضايا والإشكاليات .
يقيناً أن ثقافة العنف والتعصب لا تنحصر في طرف سياسي بعينه أو طبعة محددة من طبعات الآيديولوجيا الشمولية التي عرفها المجال السياسي لمجتمعنا اليمني، بل تتجاوز ذلك بالنظر الى مفاعيلها المتنوعة في البيئـة الفكرية والثقافية والتعليمية والاجتماعية التي تعاني من تشوهات لا تُحصى ، بما في ذلك السيولة التي تتجسد في انتشار واستخدام السلاح تحت ذريعة المحافظة على العادات والتقاليد وحماية الخصوصية !!
تأسيسا ً على ما تقدم يمكن القول بأن إجماع القوى السياسية على إدانة الإرهاب والتطرف يجب أن ينتقل من حيز الخطاب السياسي والاعلامي الى مجال السياسات العملية ، وبما من شأنه افساح الطريق لبناء اصطفاف وطني ضد هذا الخطر الماحق ، وصياغة إستراتيجية وطنية شاملة لتجفيف منابعه ، وصولا ً الى بلورة مشروع وطني شامل لتحديث الدولة والمجتمع في مختلف ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والعلوم والإدارة والتعليم والإعلام على طريق الخروج من فجوة التخلف والانقطاع عن إبداع الحضارة التي تهدد حاضرنا ومستقبلنا بأوخم العواقب .
في هذا السياق تتحمل ثقافة (( الحاكمية )) التي يسعى (الاخوان المسلمون ) ورجال الدين المنخرطون في العمل الحزبي والنشاط السياسي الى تسويقها وتطبيقها ، جانبا من المسؤولية عن الجرائم الارهابية .. فالله بموجب هذه الثقافة يفوِّض رجال الدين للحكم بإسمه وإقامة حاكميته في المجتمع البشري والعمل على حراستها في الدنيا ، وهي فكرة كهنوتية بامتياز .. ولما كانت الديمقراطية تعتدي على (( حق)) رجال الدين في (( الحاكمية )) ، وتتيح للأمة حرمانهم من الحكم بإسم الله إستناداً الى فكرة ((التفويض الإلهي )) التي روّج لها سدنة الإكليروس المسيحي وأحبار التلمود اليهودي وملالي وكهنة الاسلام السياسي، فإنها بالضرورة تعد كفراً صريحاً .. وبالتالي فإن هذا الكفر يطال النظام السياسي الذي جعل الأمة مرجعاً للحكم بواسطة الإنتخابات وصناديق الإقتراع ، بدلاً من تحالف رجال الدين مع النخب الاقطاعية المتسلطة تحت مسمى (( اهل الحل والعقد)) (( وأهل اليد والقدرة )).. ولذلك يكون من واجب تلاميذ ((رجال الدين )) واتباعهم ان يبادروا منفردين بممارسة ((الحاكمية)) نيابة عنهم و((الجهاد)) ضد الأعداء على نحو ما يفعله في هذه الأيام تنظيم ( القاعدة) الارهابي والجماعات الجهادية السلفية التي تدور في فلكه !
ازعم بأن القتلة والمجرمين الذين ارتكبوا جرائم ارهابية بشعة في بلادنا هم أيضا ضحايا لتلك الجرائم الى جانب غيرهم من المواطنين والسياح ورجال الأمن الذين سفك الارهابيون دماءهم وأزهقوا حياتهم .. بيد أنني لا ادعو الى تبرئة الارهابيين من جرائمهم،بل أطالب بمنع غيرهم من الإقدام على إزهاق حياة المزيد من الضحايا الأبرياء من خلال تجفيف منابع التطرف والارهاب ، وايقاف ماكنة إنتاج القتلة والانتحاريين .
لماذا يعتبر الارهابيون والحال كذلك ضحايا لجرائمهم أيضا ً ؟.. السبب ببساطة يعود الى السهولة التي يتحول بها إنسان مضلل الى قاتل متوحش من خلال (( صناعة التطرف )) التي يفوق انتشارها في بلداننا العربية ـــ وبضمنها اليمن ـــ قدرة الدولة على نشر صناعة التقانة والحداثة في المجتمع !!
في هذا السياق تبدو حياتنا الثقافية والإعلامية والروحية نمطية وتعاني من الجفاف واليبوسة ، الأمر الذي يولـّد مناخاً خصباً لإنتشار ثقافة التطرف والتعصب وسرعة التأثر بها من قبل الشباب الذي يعيش في صحراء ثقافية قاسية .. ولعل من يشاهد التلفزيون اليمني ويبحث عن دار عرض للأفلام السينمائية الجديدة، ويرغب في البحث عن مكان هادئ للترويح عن نفسه واسرته واطفاله ، يكتشف الكثير من مصادر اليبوسة والقساوة والجفاف في حياتنا الثقافية و الإعلامية والروحية !!
ويبقى القول إن ثمة وجهين للحقيقة التي ينبغي معرفتها من اجل التعرف على الارهابيين الحقيقيين الذين ينبغي ضبطهم ومنعهم من ارتكاب جرائم قتل جديدة باسم الدين : الوجه الأول يتمثل في الأفكار المتطرفة وثقافة العنف التي يغذيها إنتشار الأسلحة وسهولة الحصول عليها واستخدامها والمتاجرة بها .. وحين يلتحم الفكر المتطرف بالسلاح يتحول على الفور الى إرهاب مادي ملموس يهدد الحياة !!
اما الوجه الثاني فيتمثل في قساوة ويبوسة وجفاف حياتنا السياسية والثقافية والإعلامية والروحية ، وما ينجم عنها من مخرجات فاشلة تتجسد بالمكايدات الحزبية والنزعات الانتقامية والإدمان على تصفية الحسابات السياسية ، في بيئة غارقة بالتخلف والجهل والإحباط .. فيما تتجه قلة من الناس ـــ خارج هذه البيئة ـــ الى مخرجات اخرى تلبي احتياجاتها المعرفية والروحية من مصادر خارجية في هذا العالم المتغير الذي لا مستقبل فيه لمن يتوهم بإمكانية السيطرة على ان يكون المرسل الوحيد والمتحكم الأوحد في جمهور محروم من حريته في اختيار ما يريده وما يتلقاه !!