عدت من الإسكندرية وفي فمي شيء من إسكندرية.. رأيت أشياء قليلة، وغابت عني أشياء كثيرة. استمتعت بالبحر والمطر، تمشيت طويلا على الكورنيش وعلى شط الإسكندرية، ورأيت بعض تاريخ المدينة فيما زرته من أوابد ومعالم أخرى.. لكن ما رأيته لم يكن إلا النزر من الإسكندرية.
لا يمكن أن تعرف تاريخ وثقافة وعادات أي شعب أو مدينة مالم تقرأ لكتّابها وروائييها. عرفت القاهرة والشخصية المصرية إلى حد ما قبل أن أزور مصر
من يحيى حقي وقنديل أم هاشم، ومن نجيب محفوظ وثلاثيته: بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية، وغيرها. ووجدت في التوغل في روايات يوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، ومحمد عبدالحليم عبدالله، ويوسف إدريس وغيرهم من روائيي مصر الذين يمثلون ذاكرة القاهرة، مرآة مصر الذين بدون قراءة ما كتبوه عنها لا يمكنك الزعم بأنك عرفت مصر والشخصية المصرية. ومع ذلك، تظل تجهل الكثير عنها مهما قرأت وتعمقت مالم تقرأ جمال حمدان (الشخصية المصرية.. دراسة في عبقرية المكان).
عندما كنت في الإسكندرية نهاية أكتوبر الماضي كنت حريصًا على التعرف عليها في أقل وقت ممكن، أي الأيام المحدودة التي تستغرقها الزيارة. وطبعًا لم أكن حريصًا فقط على الاستمتاع بالبحر والشاطئ والكورنيش وزيارة المتاحف والمعالم الأخرى، وهي كثيرة ومهمة وجزء من تاريخ وثقافة الإسكندرية. وقد زرت ما سمح به الوقت القليل المتاح، لكن كان يهمني أكثر التعرف إلى الشخصية المصرية الإسكندرانية بالذات. لكن لم أستطع غير تكوين انطباع عام وسريع، مدفوعًا بمدى التشابه بين عدن والإسكندرية والشخصيتين العدنية والإسكندرانية، وبينهما أوجه شبه كثيرة.
بموجب الذكاء الاصطناعي، يشير مصطلح “شخصية الإسكندرانية” إلى مجموعة من السمات المميزة لأهل الإسكندرية، مثل “الجدعنة” والشهامة والروح المرحة والمنطلقة والمحبة للفنون، وهي سمات تشكلت بفعل تاريخ المدينة وتنوعها البشري والبيئي. كما يمكن أن يشير إلى العديد من الشخصيات العامة البارزة من الإسكندرية في مختلف المجالات مثل الفن والأدب والرياضة والسياسة.
تُعرف شخصية الإسكندراني عموماً بأنها “جدعة”، “مرنة” و”محبة للفنون”، وتتسم بالشجاعة والروح المرحة بسبب قربهم من البحر، بالإضافة إلى أنها متأثرة بتنوعها البشري. ويتميز الإسكندراني بكونه “منطلقاً، مرحاً، محباً للآخر، لا يخاف المجهول، رايقاً ومحباً للفنون”. وتُوصف شخصية الإسكندراني بالجدعنة والشجاعة، وهي صفات مستمدة من التعامل مع البحر، حسب صدى البلد.
وبسبب تاريخ المدينة العريق، تأثر الإسكندريون بثقافات متعددة من خلال الاختلاط بالسكان الأصليين والأجانب من أصول أوروبية وعربية وتركية وغيرها، مما أعطى المدينة طابعًا “كوزموبوليتايًا فريدًا. ومن أبرز شخصيات الإسكندرية الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وهناك شارع عريق يحمل اسمه في الإسكندرية تخليدا لذكرى ابنها الزعيم الذي أثر في السياسة العالمية بشكل عميق. وعبد الرازق السنهوري، أحمد نظيف، سيد ياسين، المفكر والمثقف المهموم بقضايا الأمة وصاحب المشروع الثقافي الشامل، سيد درويش، فنان الشعب والموسيقار وصاحب النشيد الوطني المصري “بلادي بلادي”، وزوروني كل سنة مرة التي تغنيها جارة القمر فيروز، والشاعر صلاح جاهين، صاحب الرباعية الأشهر. والمخرج العالمي يوسف شاهين الذي أرّخ لمدينته الإسكندرية عبر سيرته الذاتية في ثلاثيته، إسكندرية ليه، إسكندرية كمان وكمان، وإسكندرية نيويورك.
والفنان العالمي عمر الشريف الذي أهدته الإسكندرية ومصر إلى السينما العالمية. وغيرهم ممن تركوا بصمة في تاريخ مصر السياسي والثقافي والفني، وتضم قائمة طويلة من الفنانين الذين أثروا فن السينما والدراما المصرية: محمود عبد العزيز، هند رستم، نادية الجندي، سمير صبري، شكري سرحان، وأسطورة الغناء ابن الإسكندرية ديميس روسوس، وقسطنطين كفافيس شاعر الإسكندرية الذي ولد وعاش ومات فيها وصدر عشقها للعالم. ولم أتمكن من زيارة متحفه في الشارع الذي يحمل اسمه في الإسكندرية، ولا مسرح العبقري الملحن والفنان سيد درويش الذي يقع المتحف بقربه، وهو عبقري آخر من أبناء الإسكندرية..
انتهت الزيارة بأيامها القليلة، والممتعة في نفس الوقت.. عدت إلى القاهرة حيث أقيم. عدت وفي فمي شيء من حتى.. أو قل شيء من الإسكندرية.
